حمل المصلي الآن
مدونة المصلي >> إيمانيات

موت العلماء.. انطفاءُ مصابيحِ الهُدى

موت العلماء.. انطفاءُ مصابيحِ الهُدى
2025‏/09‏/24
31٬780

 إنَّ حياةَ العلماءِ حياةٌ للأمَّة، فهم صمامُ أمانِها، ونورُ بصيرتِها، وموت العلماء مصيبةٌ تهزُّ القلوب، وتُنذرُ بانتشار الجهل وظهور البدع.

وإنَّ للأمَّة الإسلاميَّة دِعائمَ تحفظُ لها دينَها وتبقي لها هويَّتَها، وفي مقدِّمتها العلماءُ؛ ورثةُ الأنبياءِ، وحَمَلَةُ الوحي، وأُمناءُ الشريعة، ومصابيحُ الهدى في ظلمات الفتن.

فإذا مات العلماء، ارتفعت معالمُ الهداية، وعظُم الخَطب، وحلَّ البلاء؛ إذ لا غِنى للأمَّة عنهم طرفةَ عينٍ، وثُلْمَةُ موت العلماء لا يَسدُّها شيء.

 

فضل العُلَماءِ

لقد رفعَ اللهُ تعالى شأنَ العلماءِ، وجعلهم شهودًا على توحيدِه، فقال سبحانه:

﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18] 

 

العلماءُ ورثةُ الأنبياءِ

أخبر النبيُّ ﷺ أنَّهم «وَرَثَةُ الأنبياءِ»، فهم حَمَلَةُ هذا الدِّين، وبهِم يُعرَفُ الحقُّ من الباطل، وتُقامُ الحُجَّةُ على الخلق.

قال النبيُّ ﷺ: مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ.

[(حسن) سنن أبي داود (3641) والترمذي (2877) وابن ماجه (223)]

والعلماء يبلِّغون عن الأنبياء، ويهتدون بهديهم، ويعلِّمون الناس دينهم.

 

رَفْعُ اللهِ لدرجاتِهم

قال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11] 

وهذه الرفعةُ دليلٌ على شرفِ العلمِ وأهله في الدنيا والآخرة، فهم أعظمُ الناس قدرًا، وأرفعُهم مقامًا عند الله.

 

بقاءُ العلمِ ببقاءِ العلماء

إنّ موت العلماء من أعظم المصائب التي تُصيب الأمة، فهم مصابيح الهداية وأمناء الشريعة، وبذهابهم يذهب العلم والفقه والنور. وما أشدَّ خسارة الأمة حين تفقدَ رجالَها العلماء الذين هم حصونها ومرجعها في الدين والدنيا.

والعلمُ يُحفَظ في صدور العلماء، فإذا ماتوا اندرس كثيرٌ منه.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».

[صحيح البخاري (100) ومسلم [2673].

هذا الحديث يُبيِّن أن موت العلماء ليس فقدًا لأشخاصٍ فحسب، بل إزالةٌ لطبقةٍ تحفظ الشريعة؛ فإذا غابوا تصدَّر الجهّال، فاختلط الحقُّ بالباطل، وانتشرت الفتن، وكثر التخبُّط في الفتاوى والمواقف.

«رفع العلم لا يكون بمحوه من الصدور، ‌بل ‌بموت ‌العلماء ‌وبقاء ‌الجهال ‌الذين ‌يتعاطون ‌مناصب ‌العلماء ‌في ‌الفتيا ‌والتعليم، يفتون بالجهل ويعلمونه، فينتشر الجهل ويظهر، وقد ظهر ذلك ووجد على نحو ما أخبر ﷺ، فكان ذلك دليلا من أدلة نبوته، وخصوصا في هذه الأزمان؛ إذ قد ولي المدارس والفتيا كثير من الجهال والصبيان وحُرمها أهل ذلك الشأن»

[المفهم (6/ 705) لـ أبو العباس القرطبي (578 - 656 هـ)]

 

وقال ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك (ت 449 هـ):

«وقوله ﷺ: إن الله لا ينزع العلم من العباد، فمعنى ذلك أن الله لا يهب العلم لخلقه، ‌ثم ‌ينتزعه ‌بعد ‌أن ‌تفضَّل ‌به ‌عليهم، والله يتعالى أن يسترجع ما وهب لعباده من علمه الذي يؤدى إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بتضييع التعلُّم فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر ﷺ بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى.»

[شرح صحيح البخاري لابن بطال (1/ 177)]

 

وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ [الرعد: 41] 

قال بعضُ السَّلف: «ننقُصها من أطرافها بذَهاب فقهائها وخِيارها».

عن ابن عباس قال: ذهابُ علمائها وفقهائِها وخيار أهلِها.

[تفسير الطبري (16/ 498)]

 

إنَّ العلماءَ هم حُرَّاسُ الشريعة، وغيابُهم ذهابٌ للعلمِ والبركة، ومن ثَمَّ وجب على الأمة تعظيمُ شأنهم، والأخذُ عنهم، والدعاءُ لهم، وحفظُ ميراثهم العلمي ونشرُه بين الأجيال.

فـ موت العلماء والفقهاء من المصائب العظام التي تنزل بالأمة، وهو ثُلمة لا تُسدُّ وجُرح لا يندمل.

عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا يَقُولُونَ: «مَوْتُ ‌الْعَالِمِ ‌ثَلْمَةٌ ‌فِي ‌الْإِسْلَامِ ‌لَا ‌يَسُدُّهَا ‌شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ»

[الزهد لأحمد بن حنبل (ص212)]

 

عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: شَهِدْتُ جَنَازَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَلَمَّا دُلِّي فِي قَبْرِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: «‌يَا ‌هَؤُلَاءِ ‌مَنْ ‌سَرَّهُ ‌أَنْ ‌يَعْلَمَ ‌كَيْفَ ‌ذَهَابُ ‌الْعِلْمِ ‌فَهَكَذَا ‌ذَهَابُ ‌الْعِلْمِ، وَايْمُ اللهِ لَقَدْ ذَهَبَ الْيَوْمَ عِلْمٌ كَثِيرٌ.

[المعجم الكبير للطبراني (4751)]

 

أثر موت العلماء في الأمة

كم رأينا في زماننا من آثار رحيل كبار العلماء: تضعضع في الفتوى، وجرأةٌ من غير المؤهَّلين، وتسرُّع في الحكم على النصوص، وظهور أقوالٍ شاذةٍ تُشوِّه صفاءَ الدين.

   إنَّ موت العلماء يذكّر الأمة بحقيقةٍ مؤلمة: أن العلم لا يُورَث في الكتب فقط، بل في الصدور الحيّة التي تعمل وتبلِّغ.

قال عبدُ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه: «موتُ العالِم ثُلمةٌ في الإسلام لا يسدُّها شيء ما اختلف الليلُ والنهار».

 

واجب الأمة عند موت العلماء

رحيل العلماء يفتح أعيننا على ضرورة تعلُّم العلم الشرعي، فإن بقاء العلم في الكتب بلا حَمَلةٍ أحياء يشرحونه ويحرسونه لا يكفي. فالمسلم يُسارع إلى حلقات العلماء، يستفيد من توجيههم، ويقي نفسه وأهله الفتن.

الاعتبار والاتعاظ:

فموتهم نذيرٌ بانقطاع العلم، فيجب أن يُجدِّد المسلم عهده مع طلب العلم قبل فوات الأوان.

 الدعاء لهم:

فهم بذلوا أعمارهم في تعليم الناس، ومن الوفاء الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، ونشر تراثهم العلمي، وأعظم مكافأة الدعاء لهم.

عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسولُ الله ﷺ: مَنِ استعاذَ بالله فأعيذُوه، ومَنْ سألَ بالله فأعطُوه، ومَن دعاكم فأجيبُوه، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا ‌فَكَافِئُوهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» [(صحيح) سنن أبي داود (1672)]

توقير من بقي منهم: بإكرام العلماء الأحياء، والأخذ عنهم، وعدم تأخير التلقي حتى يُحال بيننا وبينهم بالموت أو العجز.

حمل الأمانة:

 على طلبة العلم أن يشمِّروا عن ساعد الجد، فيأخذوا ما ورثوه من علوم شيوخهم والتعلم منهم في حياتهم، ويحملوه بأمانةٍ وصدقٍ ليُبلِّغوه لمن بعدهم. ونشر تراثهم: بتدوين علومهم، ونشر كتبهم ودروسهم، وإحياء أقوالهم الصحيحة.

إعداد جيل جديد يحمل العلم:

 بالاعتناء بطلبة العلم، ودعم المؤسسات الشرعية، وتشجيع حفظ القرآن والحديث.

الثبات على السنة بعد موت العلماء، يجب التمسك بما تركوه من الحق.

 

ختام مؤثر

إن موت العلماء ليس فقدًا لأشخاصهم فقط، بل هو فقدٌ للعلم وانطماسٌ للمعالم وظهورٌ للجهل والفتن، وانكسارُ ركنٍ من أركان الهداية، وانطفاءُ مصباحٍ كان يضيء الدرب للناس.

فاحرصوا على الأخذ عن علمائكم الأحياء، واغتنموا مجالسهم، وادعوا لفقيدهم، وانشروا علمهم، فإن ذلك صدقة جارية لهم ولكم.

 

اللهم احفظ علماءنا، واغفر لموتاهم، وارزق الأمةَ خلفًا صالحًا يُقيم الحجة ويحيي السنة.

فلْنسأل الله أن يحفظ للأمة علماءها، وأن يُخلِف فيها من يقوم مقامهم بالحق والهدى.

«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ».

وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شارك تؤجر.

 

هل انتفعت بالفائدة؟

 

بحث

الأكثر تداولاً

مقالات متعلقة

2025‏/09‏/17
27٬385

المسارعة إلى الخيرات (2)

المسارعة إلى الخيرات، من بادر سبق، ومن سبق فاز، ومن فاز سعد في الدنيا والآخرة..لا تتأخر عن ميادين الطاعة، فالسعادة هناك

2025‏/09‏/17
30٬708

المسارعة إلى الخيرات (3)

المسارعة إلى الخيرات، طريق المؤمنين وصفة المتقين، ودليل صدق العبد مع ربه، وبرهان محبته، وزاد رحلته إلى الآخرة.

2025‏/09‏/22
23٬327

من أهوال القيامة: النفخ في الصور

النفخ في الصور: من الأهوال ِالعظيمة ليوم القيامة التي يجب على المسلم أن يُؤمن بها ويستعدّ لها

مع تطبيق المصلي تعرف على المساجد القريبة أينما كنت بمنتهى الدقة

حمل المصلي الآن

مدار للبرمجة © 2025 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة

Powered by Madar Software