فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك،
قال تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]. يقول ابن مسعود: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من القرآن، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن.
لقد كان هذا القرآن خيراً عاماً تآخت عليه شعوب الإسلام، ونشأت به مدنية كانت زينة الأرض وضياءها، ورحمتها وعدلها، قرأ الأسلاف القرآن، فأحيوا به ليلهم رهباناً، وعمروا به نهارهم فرساناً، تفيض أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، يغشاهم الخشوع، ويكسوهم الوقار
نقف اليوم مع سورة الفاتحة، أعظم سورة في القرآن، والتي لا تقبل صلاة أحدنا بغيرها، ولم ينزل في أي كتاب سماوي مثلها، لذا نقف اليوم لنتدبر آياتها العظيمة.
إن تكرار وصف الله تعالى لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى أن الدين الذي كتابه القرآن إنما تقوم فضائله ونُظُمه على الرحمة والحب والإحسان، وأن الله إذا لم يرحمك فلن تستفيد شيئًا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد الجنة بعمله»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته».
حوت هذه الآيات الكثير من المعاني الجليلة، والمقاصد العظيمة، والدلالات الواسعة، ففي صدرها أخبر ربنا جل جلاله أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين قد أقروا بأصول الإيمان العظيمة.
قال الله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3] وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ .». [صحيح مسلم (2840)] أي في رقتها وطيبتها وتآلفها وقيل: معناه متوكلون.
آية الكرسي، هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردًا للإنسان في أذكار الصباح وأذكار المساء، وأذكار ما بعد الصلاة، وأذكار النوم.
كتب الله على نفسه الرحمة، وبَيَّن أنها وسعت كل شيء، إلا أنه جعل لها أسبابًا إذا قام بها العبد كانت أقرب إليه وأسرع، وحظه منها أكبر، لا سيما الرحمة الخاصة، وبالمقابل جعل أسبابًا للحرمان منها، إذا قام بها العبد أغلق على نفسه باب الرحمة، وحرم نفسه من رحمة أرحم الراحمين.