
المؤمن الحقّ لا يرضى أن يكون متأخِّرًا في ميادين الطاعة، بل يسعى في المسارعة إلى الخيرات وأن يكون سبَّاقًا لكل خير، ممتثلًا لقوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148].
وفيما يلي نماذج مشرقة وتطبيقات عملية تعين المسلم على المسارعة إلى الخيرات، وأن يجعل المسلم أنفاسه ولحظاته ميادين سباقٍ شريفٍ لا يعرف التوقف، للتنافس في الخيرات وطلب القرب من الله.
المثل التطبيقي من حياة النبي ﷺ في المسارعة إلى الخيرات
قال عقبة بن الحارث رضي الله عنه: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ فَقَالَ: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ.»
[صحيح البخاري (851)]
والتبر هو الذهب وقد جاء في بعض الروايات أنه ذهب الصدقة، والمقصود بقوله: يحبسني أي: من التوجه إلى الله تعالى أي يصير شاغلا لي.
ويستفاد من الحديث مبادرته ﷺ إلى المسارعة إلى الخيرات وأن من وجب عليه فرض فالأفضل له المبادرة إليه.
موقف آخر في المسارعة إلى الخيرات
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ سَبَقَهُمْ عَلَى فَرَسٍ وَقَالَ: وَجَدْنَاهُ بَحْرًا.»
[صحيح البخاري (2820)]
أبو بكر الصديق رضي الله عنه والمسارعة إلى الخيرات
كان أول من سبق إلى الإسلام، وسبق في الإنفاق والجهاد، والمسارعة إلى الخيرات.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ»
[(صحيح) سنن الترمذي (3661)]
وعن عمر بن الخطّاب- رضي الله عنه قال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا، فَقُلْتُ: اليَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا،
قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟» قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا.
[سنن الترمذي (3675) وقال: هذا حديث حسن صحيح].
«عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَنَا مَعَهُ وَأَبُو بَكْرٍ، عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَقْرَأُ، فَقَامَ فَتَسَمَّعَ قِرَاءَتَهُ، ثُمَّ رَكَعَ عَبْدُ اللهِ، وَسَجَدَ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ "، قَالَ: ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَالَ: " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ، فَلْيَقْرَأْهُ مِنَ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ". قَالَ: فَأَدْلَجْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ لِأُبَشِّرَهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، قَالَ: فَلَمَّا ضَرَبْتُ الْبَابَ - أَوْ قَالَ: لَمَّا سَمِعَ صَوْتِي - قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قُلْتُ: جِئْتُ لِأُبَشِّرَكَ بِمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ. قَالَ: قَدْ سَبَقَكَ أَبُو بَكْرٍ. قُلْتُ: إِنْ يَفْعَلْ فَإِنَّهُ سَبَّاقٌ بِالْخَيْرَاتِ، مَا اسْتَبَقْنَا خَيْرًا قَطُّ إِلَّا سَبَقَنَا إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ»
[مسند أحمد (265) وقال محققوه «إسناده صحيحَ.»
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
كان يتسابق مع أبي بكر في كل خير، حتى قال: مَا اسْتَبَقْنَا خَيْرًا قَطُّ إِلَّا سَبَقَنَا إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ»
ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه والمسارعة إلى الخيرات
سارع بتجهيز جيش العسرة، فأنفق نفقة عظيمة، فقال ﷺ: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ»
[(حسن) سنن الترمذي (3701)]
عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: لَمَّا حُصِرَ عُثْمَانُ، أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَوْقَ دَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حِرَاءَ حِينَ انْتَفَضَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اثْبُتْ حِرَاءُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ فِي جَيْشِ العُسْرَةِ: «مَنْ يُنْفِقُ نَفَقَةً مُتَقَبَّلَةً»، وَالنَّاسُ مُجْهَدُونَ مُعْسِرُونَ فَجَهَّزْتُ ذَلِكَ الجَيْشَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ أُذَكِّرُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُومَةَ لَمْ يَكُنْ يَشْرَبُ مِنْهَا أَحَدٌ إِلَّا بِثَمَنٍ فَابْتَعْتُهَا فَجَعَلْتُهَا لِلْغَنِيِّ وَالفَقِيرِ وَابْنِ السَّبِيلِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ، نَعَمْ، وَأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا
[سنن الترمذي (3699)، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب].
عمير بن الحمام الأنصاري يعلمنا المسارعة إلى الخيرات
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ.
فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ. قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟.
قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ، إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ»
[صحيح مسلم (1901)]
أحوال السلف في المسارعة إلى الخيرات
لقد كانت للسلف حالات عجيبة من المسارعة إلى الخيرات وفعل الصالحات، فمنهم من كان يسرد الصوم، ومنهم من يقوم الليل، ومنهم من يختم القرآن كل ليلتين.
وقد قال الربيع رحمه الله: واعلم أن الراحة لا تنال بالراحة، ومعالي الأمور لا تنال بالفتور، ومن زرع حصد ومن جد وجد.
ابن الجوزي يحدو بـ المسارعة إلى الخيرات
قال رحمه الله " طوبى لمن بادر عمره القصير، فعمر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وإعراض النصير
كان الحسن يقول: عجبت لأقوام أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون.
وكان يقول: يا بن آدم: السكين تشحذ، والتنور يسجر، والكبش يعتلف.
وكان أبو بكر بن عياش يقول: لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول: إنا لله، ذهب درهمي وهو يذهب عمره، ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات، ويحفظون الساعات، ويلازمونها بالطاعات.
فقيل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنه ما مات حتى سرد الصوم.
وكانت عائشة رضي الله عنها تسرد، وسرد أبو طلحة بعد رسول الله ﷺ أربعين سنة، وقال نافع: ما رأيت ابن عمر صائماً في سفره ولا مفطراً في حضره.
قال سعيد بن المسيب: ما تركت الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة.
وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في ليلتين.
وكان الأسود يقوم حتى يخضر ويصفر، وحج ثمانين حجة.
وقال ثابت البناني: ما تركت في الجامع سادنة إلا وختمت القرآن عندها.
وقيل لعمرو بن هانئ: لا نرى لسانك يفتر من الذكر فكم تسبح كل يوم؟ قال: مائة ألف، إلا ما تخطيء الأصابع.
وصام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها، وكان الليل كله يبكي فتقول له أمه: يا بني قتلت قتيلاً، فيقول: أنا أعلم بما صنعت نفسي.
قال الجماني: لما حضرت أبو بكر بن عياش الوفاة بكت أخته، فقال: لا تبك، وأشار إلى زاوية في البيت، إنه قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة.
قال الربيع: وكان الشافعي رضي الله عنه يقرأ في كل شهر ثلاثين ختمة، وفي كل شهر رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلوات، واعلم أن الراحة لا تنال بالراحة، ومعالي الأمور لا تنال بالفتور، ومن زرع حصد، ومن جد وجد.
لله در أقوام شغلهم تحصيل زادهم، عن أهاليهم وأولادهم، ومال بهم ذكر المآل عن المال في معادهم، وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلاً بمرادهم، وتوسدوا أحزانهم بدلاً عن وسادهم، واتخذوا الليل مسلكاً لجهادهم واجتهادهم، وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم، فيا طالب الهوى جز بناديهم ونادهم:
أحيوا فؤادي ولكنهم … على صيحة من البين ماتوا جميعاً
حرموا راحة النوم أجفانهم … ولفوا على الزفرات الضلوعا
طوال السواعد شم الأنوف فطابوا أصولاً وطابوا فروعاً
أقبلت قلوبهم ترعى حق الحق فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق.
فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى، والقلوب في رياض الملكوت ترعى، نازلهم الخوف فصاروا والهين، وناجاهم الفكر فعادوا خائفين، وجن عليهم الليل فباتوا ساهرين، وناداهم منادي الصلاح، حي على الفلاح، فقاموا متجهين، وهبت عليهم ريح الأسحار فتيقظوا مستغفرين، وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين، فلما رجعوا وقت الفجر بالأجر بادي الهجر يا خيبة النائمين.
[مواعظ ابن الجوزي (ص57)]
ونكمل في الفائدةِ التّاليةِ بإذنِ اللهِ تعالى، سائلينَ اللهَ تعالى التوفيقَ والسّداد.
فاللهم اجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، السابقين إلى الجنات، الموفَّقين إلى طاعتك آناء الليل وأطراف النهار.
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________________
هل انتفعت بالفائدة؟
للاستزادة