
الخشوع في الصلاة بمنزلة الروح من الجسد، فإذا فقدت الروح مات الجسد، فالخشوع روح الصلاة، ولبها، ومما يدل على عظم منزلة الخشوع في الصلاة: أن الله تعالى يعرض عن من التفت بقلبه أو ببصره, لحديث الحارث الأشعري يرفعه، وفيه: وإن الله أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت. [الترمذي 2863]
وأصل الخشوع: هو لين القلب ورقته، وسكونه، وخضوعه، وانكساره، وحرقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح، والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ألَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ [متفق عليه]
وأجمع العارفون على أن الخشوع محله القلب، وثمرته على الجوارح.
فإذا خشع القلب خشع: السمع، والبصر، والرأس، والوجه، وسائر الأعضاء، وما ينشأ منها حتى الكلام؛ و لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة: .. اللَّهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي، وَبَصَرِي، وَمُخِّي، وَعَظْمِي، وَعَصَبِي" [مسلم]
وخشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم، والإجلال، والوقار، والمهابة، والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل، والخجل، والحب، والحياء، وشهود نعم الله وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوع الجوارح.
وأما خشوع النفاق، فيبدو على الجوارح تصنُّعاً وتكلُّفاً، والقلب غير خاشع.
فضل الخشوع في الصلاة:
الخشوع والتواضع لله من أعظم أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار
فمن صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ لحديث عثمان رضي الله عنه، أنه حين توضأ وضوءا كاملا قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال: "من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه [متفق عليه].
ومن صلى صلاة مكتوبة فأحسن خشوعها كانت كفارة لما قبلها من الذنوب؛ لحديث عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها، وخشوعها، وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله [مسلم].
ومن صلى ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه وجبت له الجنة؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه، ثم يقوم فيصلي ركعتين، مقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة [مسلم].
خشوع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته
النبي صلى الله عليه وسلم: هو أتقى الناس لربه، وأخشاهم، وأشدهم خشية وخشوعا لله تعالى.
يبكي في الصلاة من خشية الله تعالى، فعن عبد الله بن الشخير قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء. [أبو داود].
خشوع عبد الله بن الزبير رضي الله عنه في صلاته، قد ذكر أنه كان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه.
وكان عروة يخشع في صلاته خشوعا عظيما، فقد ذكر أنه خرج من المدينة متوجها إلى دمشق ليجتمع بالوليد، وعندما كان في واد قرب المدينة أصابه أكلة في رجله، ولم يصل إلى دمشق إلا وقد وصلت الأكلة إلى نصف ساقه، ودخل على الوليد، فجمع له الأطباء، فأجمعوا على أنه إن لم يقطعها وإلا أكلت رجله كلها إلى وركه، وربما ترقت إلى الجسد، فطابت نفسه بقطعها، وقالوا له: ألا نسقيك مرقدا؟ فقال: ما ظننت أن أحدا يشرب شرابا، أو يأكل شيئا يذهب عقله حتى لا يعرف ربه، ولكن إن كنتم لا بد فاعلين فافعلوا ذلك وأنا في الصلاة؛ فإني لا أحس بذلك، ولا أشعر به، فنشروا رجله من فوق الأكلة من المكان الحي احتياطا حتى لا يبقى منها شيء وهو قائم يصلي، فما تألم ولا اضطرب، فلما انصرف من الصلاة عزاه الوليد في رجله، فقال: اللهم لك الحمد، كان لي أطراف أربعة، فأخذت واحدا، وأبقيت ثلاثة، فلئن كنت قد أخذت فقد أبقيت، وإن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، فلك الحمد على ما أخذت، وعلى ما عافيت، وكان قد صحبه بعض أولاده …فمات أحبهم إليه فعزوه فيه، فقال: الحمد لله كانوا سبعة، فأخذت منهم واحدا وأبقيت ستة، فلئن كنت قد ابتليت، فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت، فلطالما أعطيت، ثم رجع إلى المدينة، وما شكا ذلك إلى أحد، فلما دخل المدينة أتاه الناس يسلمون عليه ويعزونه في رجله وولده، فبلغه أن بعض الناس قال: إنما أصابه هذا بذنب عظيم أحدثه، فأنشد عروة في ذلك، والأبيات لمعن بن أوس:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها ولا دلني رأيي عليها ولا عقلي.
قال الحسن رحمه الله تعالى: إذا قمت إلى الصلاة قانتا، فقم كما أمرك الله، وإياك والسهو، والالتفات، إياك أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره، وتسأل الله الجنة، وتعوذ به من النار وقلبك ساه لا تدري ما تقول بلسانك.
وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
انشر تؤجر وشاركنا تعليقاتك.