
إن الإنسان غارق في نعم ربه، وكل نعمة من هذه النعم تستوجب منه شكراً لله عليها، والإنسان لا بد له من طلب العون من ربه على شكره، كما ثبت في السنة، فعن معاذ بن جبل، أن رسول صلى عليه وسلم أخذ بيده، وقال: «يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك»، فقال: «أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك». سنن أبي داود (2/ 86) بسند صحيح.
وقال الله تعالى : {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} [سبأ: 13]
قال ابن كثير رحمه الله: أي: وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين.
وقوله تعالى (اعملوا آل داوود شكراً): فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية.
فالصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر. وأفضل الشكر الحمد.
وقيل: الشكر تقوى الله والعمل الصالح.
وإذا نظرنا في أحكام الشرع لوجدنا عبادات كثيرة وقرباً متعددة قد شرعها الله تعالى لعباده شكراً له على نعمه العظيمة وآلائه الجليلة، ومن ذلك:
1. سجود الشكر: قال ابن القيِّم – رحمه الله -: وكان مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدي أصحابه سجودُ الشكر عند تجدُّد نِعمة تسُرُّ أو اندفاع نِقمة، كما في " المسند " عن أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه خرَّ لله سَاجِداً شُكْراً لله تَعَالى.
وذكر ابنُ ماجه عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُشِّرَ بحَاجَةٍ فخَرَّ للّه سَاجِداً.
2. صلاة قيام الليل: عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونَ عَبْدًا شَكُوراً». صحيح البخاري ( 4557 ) ومسلم ( 2820 ).
( أفلا أكون عبداً شكوراً ) أي: بنعمة الله عليَّ بغفران ذنوبي وسائر ما أنعم الله عليَّ.
فهناك عبادات وقربات فعلها يكون شكراً لله تعالى ابتداءً، ومنه نستفيد أنه يجوز أن يشكر العبد ربَّه تعالى بعبادة من مثل ما سبق أو غيرها، وقد رأينا ذلك في فعل الصحابة رضي الله عنهم ، وأقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك، تصدق كعب بن مالك وأبي لبابة بماليهما شكراً لربِّهما تعالى على قبوله توبتهما.
فعن كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. صحيح البخاري ( 2606 ) ومسلم ( 2769 ) .
وقال أبو لبابة بن عبد المنذر للنبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً قَالَ: «يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ». سنن أبو داود (3319 ) بسند صحيح.
وبالتالي فإن التصدق أو العمرة أو الصوم أو الصلاة شكراً لله تعالى على من أنعم به على عبده من نعمة، ودفع عنه من نقمة، هو أمر مستحب، والأفضل أن يباشر العبد بسجدة شكر عند تلقيه خبر النعمة، ثم يأتي بعد ذلك بما شاء من العبادات والقرَب المشروعة، وليس كل ذلك على سبيل الوجوب، بل هو مستحب.
وهو الدرجة الثانية من الشكر، وهو أنْ يعملَ العبدُ بعد أداءِ الفرائض، واجتنابِ المحارم بنوافل الطَّاعات، وهذه درجةُ السَّابقين المقرَّبين، وهي التي أرشد إليها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث التي سبق ذكرُها، وكذلك كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يجتهد في الصَّلاة، ويقوم حتَّى تتفطَّر قدماه ، فإذا قيل له : أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول: «أفلا أكونُ عبداً شكوراً ».
أما الدرجة الأولى من الشكر فهي الإتيان بالوجبات والفرائض واجتناب المحرمات.
المصادر:
"جامع العلوم والحكم " ( 1 / 246 ) .
"شرح رياض الصالحين " ( 2 / 71 ) .
"الموسوعة الفقهية " ( 26 / 181 )
"تفسير ابن كثير" (6/500).
"تفسير السعدي" (676) .
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 1 / 360 ) .
" تحفة الأحوذي " ( 2 / 382 ) .