
من المُقرَّر عند العقلاء أن لكل شيء أخلاقياته؛ فنجد مثلًا أخلاقياتٍ للرياضة وأخلاقياتٍ للمِهَن والوظائف والحِرَف، ولا يُمكن بحالٍ أن يُفصَل بين العلم والأخلاق، ومُحاولة الفصل بينهما هي بمثابة تقبيح الإنسان وتحويله إلى كائنٍ مجردٍ من أي معانٍ أدبية أو معنوية.
ومن المؤسف أننا نشاهد منذ زمن بعيد -ولا نزال- إهمالَ كثير من طلاب العلم للجانب الأدبي والأخلاقي، والأسوأ من ذلك عندما يَصدُر هذا الإهمال من طلاب العلوم الدينية، فنجد اهتمامًا بالغًا بحفظ القرآن الكريم وحفظ أحاديث النبي ﷺ وحفظ المسائل الفقهية والعَقَدية، وفي الوقت نفسه نجد إهمالًا بالغًا في الجانب الأدبي والأخلاقي، فنجد طالب العلم يتطاول على والدَيْه وينتقص من العلماء ولا يضبط لسانه، وأيضًا لا نجد سَمْتَه الظاهريَّ مُتَّسِقًا مع الآداب العامة؛ والحقيقة أن هذا خَلَلٌ تربويٌّ جسيم لا بُدَّ أن ينتبه إليه الوالدان والمُرَبُّون أثناء العملية التربوية. وهذا الخَلَلُ مُلتَفَتٌ إليه منذ زمن السلف الصالح؛ ففي مُجتمَعهم أيضًا لوحظ هذا الخَلَل واعتَنَوْا بإصلاحه اعتناءً بالغًا كي يُرسِّخوا عند كل مسلم ضرورة التأدُّب قبل التعلُّم؛ ومن أبرز ما نُقل عنهم:
1- قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: تأدَّبُوا ثم تعلَّمُوا [الآداب الشرعية].
2- كاد الأدب يكون ثُلُثَي الدين [صفة الصفوة].
3- نحن إلى قليلٍ من الأدب أَحوَجُ مِنَّا إلى كثيرٍ من العلم [مدارج السالكين].
4- قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: طلبتُ الأدب ثلاثين سنةً، وطلبتُ العلم عشرين سنةً، وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم [غاية النهاية في طبقات القراء].
5- قال عبد الله بن وهب -رحمه الله-: ما تعلَّمنا من أدبِ مالكٍ أكثر مما تعلَّمنا من علمه [سير أعلام النبلاء].
6- قال أحد السلف لابنه: يا بُنيَّ، اذهب إلى الفقهاء والعلماء وتعلَّم منهم، وخُذ من أدبهم وأخلاقهم وهَديِهم؛ فإن ذلك أحَبُّ إليَّ لك من كثير من العلم [الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع].
7- قال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: إذا وُصِف لي رجلٌ له علم الأولين والآخِرين وليس له أدب فإنني لا أتأسَّف على فَوْت لقائه، وإذا سمعتُ رجلًا له أدب وليس له علم فإنني أتمنى لقاءَه وأتأسَّف على فَوْته [الآداب الشرعية].
8- قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6]؛ قال: أدِّبوهم وعلِّموهم [الآداب الشرعية].
وتَجدُر الإشارة هنا إلى مقولة تتردد على ألسنة الناس: "عَلِّم ابنك الصلاة والقرآن وهما سيُعلِّمانه كل شيء"؛ والحقيقة أن هذه المقولة صحيحة لكن بشرط أن يكون التعليم تعليمًا حقيقيًّا لا ظاهريًّا؛ بمعنى أن يعلِّم الوالدان ابنهما الخشوع في الصلاة وتدبُّر القرآن، لكن ما يحدث عند الأغلبية هو التعليم الظاهري؛ أي مجرد أداء الصلاة بأركانها وواجباتها وتحقيق شروط صحتها فقط أو حفظ القرآن وإتقانه دون تدبُّر معانيه؛ والواقع المُشاهَد في الناس خير دليل على ذلك؛ فنجد كثيرًا من طلاب العلم يتقنون حفظ القرآن وتلاوته وتجويده ويتقنون مسائل علمية صعبة لكنهم في الوقت نفسه لا يتأدَّبون بآداب العلم.
فحريٌّ بالآباء والأمهات والمُربِّين أن يجعلوا الأدب مُقدَّمًا على العلم؛ كي تخرج أجيالٌ تكون قدوةً للآخرين وفخرًا للإسلام والمسلمين، كي لا يكونوا سببًا في تشويه الدين بسوء الأخلاق وغياب الأدب.
شارك تلك الفائدة مع أصدقائك؛ فإن الدال على الخير كفاعله