
السفر من الأمور التي تطرأ على حياة المسلم في رحلته اليومية، وبين مشاغل الدنيا ومقاصد الآخرة، يجد المسلم في رخص الشريعة نوافذ رحمة وتيسير، ومن هذه الرخص ما يتعلق بالصلاة، حيث شرع الله لعباده المسافرين قصر الصلاة، تيسيرًا لهم، ورحمةً بضعفهم. فعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ: «قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ. [صحيح مسلم (686)].
ومن أهم أحكام السفر قصر الصلاة، فما حكم قصر الصلاة في السفر؟ وما شروطه؟ وما الأدلة الشرعية على ذلك؟ هذا ما سنتناوله في هذه الفائدة بعون الله تعالى.
معنى قصر الصلاة
قصر الصلاة هو أداء الصلاة الرباعية (الظهر، العصر، العشاء) ركعتين في السفر، سواء في حالة الخوف أو الأمن. أما المغرب والفجر فلا تقصران أبداً.
«والسفر هو الخروج عن عمارة موطن الإقامة قاصدًا مكانًا يبعد مسافة يصحُّ فيها قصر الصلاة» [صلاة المؤمن (2/ 723)]
حكم قصر الصلاة في السفر
يسن قصر الصلاة في السفر، وهذا مذهب الجمهور: المالكية، والشافعية، والحنابلة، وذهب بعض العلماء إلى وجوبه.
الأصل في قصر الصلاة: الكتاب والسنة والإجماع
قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ﴾ [النساء: 101]
وقد تواترت الأخبار أن رسول الله ﷺ كان يقصر في أسفاره:
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «يَا ابْنَ أَخِي! إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي السَّفَرِ. فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. ثُمَّ صَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حسنة}» [صحيح مسلم (689)]
وعند البخاري بلفظ «صَحِبْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَكَانَ لَا يَزِيدُ فِي السَّفَرِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَذَلِكَ رضي الله عنهم». [صحيح البخاري (1102)]
وقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: " إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ» [(صحيح) مسند أحمد (5866)]
وأما الإجماع، فقد أجمع أهل العلم على أن من سافر سفرًا تقصر في مثله الصلاة: في حج، أو عمرة، أو جهاد أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين، وأجمعوا على ألا يقصر في المغرب، ولا في صلاة الصبح» [الإجماع لابن المنذر (ص50)]
وعلى هذا: فالمحافظة على هذه السنة والأخذ بهذه الرخصة أولى وأفضل من تركها، بل كره بعض أهل العلم الإتمام في السفر؛ وذلك لشدة مداومة النبي ﷺ وأصحابه على هذه السنة، وأن ذلك كان هديه المستمر الدائم.» [الفقه الميسر في ضوء الكتاب والسنة (1/ 88)]
ما هي مسافة السفر التي تبيح قصر الصلاة؟
اختلف أهل العلم في مقدار مسافة السفر الذي تقصر فيه الصلاة على أقوال عدة، أقواها قولان:
القول الأول: أن المسافة التي تقصر فيها الصلاة: أربعة برد (يُقدّر بحوالي 80–88كم تقريبا)، وهذا مذهب الجمهور: المالكية، والشافعية، والحنابلة، وهو قول بعض السلف، وقول أبي يوسف من الحنفية، وبه قال فقهاء أصحاب الحديث، واختاره الشيخ ابن باز.
القول الثاني: أن القصر يجوز في أي سفر ما دام يَعدّه الناس سفرًا عرفًا، طويلا كان أم قصيرا، ولا حد له، وهذا مذهب الظاهرية، وبعض الحنابلة، واختاره ابن قدامة، وابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والشنقيطي، وابن عثيمين، والألباني رحمهم الله تعالى.
لأن نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تقييد بالمسافة أو بالزمن وليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير؛ فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفرا في عرف الناس فهو السفر، الذي علق به الشارع الحكم.
حكم قصر الصلاة لمن كان سفره دائمًا
قائد الطائرة، أو السيارة، أو السفينة، أو القطار، ومَنْ سفره مستمر طول الزمن يجوز له أن يأخذ برخص السفر كالقصر، والجمع، والفطر، والمسح.» [مختصر الفقه الإسلامي في ضوء القرآن والسنة (ص513)]
فمثل هذا له قصر الصلاة، ولو كان أهله معه، ما دام أنه ليس قريبا من وطنه، وهذا مذهب الجمهور: الحنفية، والمالكية، والشافعية.
من أين يبدأ المسافر في قصر الصلاة؟
يشترط في قصر الصلاة في السفر أن يكون قد خرج من بيوت بلده، وفارق عمرانها، وتركها وراء ظهره، وهذا باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ: صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ». [صحيح البخاري (1547)، ومسلم (690)]
وجه الدلالة:
- أنه من المعلوم أن رسول الله ﷺ قدم النية لسفره قبل الزوال، ثم أتم الظهر؛ لأنه صلاها قبل خروجه، ولم يقصر حتى خرج من المدينة.
- أن الإقامة تتعلق بدخول بيوت البلد فيتعلق السفر بالخروج عنها.
- أنه لما وجب عليه الإتمام إذا دخل بنيان بلده عند قدومه من سفره إجماعا، وجب أن لا يجوز له القصر في ابتداء خروجه قبل مفارقة بنيان بلده. [الدرر السنية بتصرف]
قال ابن المنذر «وأجمعوا على أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج عن جميع البيوت من القرية التي خرج منها. [الإجماع لابن المنذر (ص41)]
وقال البغوي: «وأجمعوا على أنه لا يجوز له القصر ما لم يخرج عن البلد.» [شرح السنة للبغوي (6/ 313)]
وقال النووي: «وأما ابتداء القصر فيجوز من حين يفارق بنيان بلده أو خيام قومه إن كان من أهل الخيام.. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة إلا رواية ضعيفة عن مالك» [شرح النووي على مسلم (5/ 200)]
وجاء في فتوى اللجنة الدائمة:
«إذا كان المطار خارج المدينة فلكم الجمع بين الصلاتين والقصر؛ لأنها بدأت في حقكم رخص السفر، أما إذا كان المطار داخل المدينة فإنه لا يجوز الترخص برخص السفر حتى تقلع الطائرة وتغادر عامر المدينة.» [فتاوى اللجنة الدائمة (6/ 439)]
ما حكم صلاة المسافر خلف الإمام المقيم؟
صلاة المسافر خلف المقيم صحيحة، ويتم المسافر مثل صلاة إمامه، سواء أدرك جميع الصلاة، أو ركعة، أو أقل، وحتى لو دخل معه في التشهد الأخير قبل السلام فإنه يتم، وهذا هو الصواب من قولي أهل العلم؛ لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما من حديث موسى بن سلمة رحمه الله قَالَ: كُنَّا مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ: إِنَّا إِذَا كُنَّا مَعَكُمْ صَلَّيْنَا أَرْبَعًا، وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى رِحَالِنَا صَلَّيْنَا رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: تِلْكَ سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ ﷺ» [(حسن) مسند أحمد (1862)]
وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله «إجماع الجمهور من الفقهاء، على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين، فأدرك منها ركعة، أنه يلزمه أن يصلي أربعا» [التمهيد (10/ 342)]
وقال: «وقد أجمعوا على أن المسافر إذا أدرك ركعة من صلاة المقيم، لزمه الإتمام، بل قد قال أكثرهم: إنه إذا أحرم المسافر خلف المقيم قبل سلامه، أنه تلزمه صلاة المقيم، وعليه الإتمام» [التمهيد (10/ 345)]
هل الأفضل للمسافر القصر أم الإتمام؟
- القصر أفضل لأنه السنة.
- إذا أتم المسافر فلا بأس، لكنه خلاف الأفضل.
ما الحكمة من تشريع قصر الصلاة؟
- التخفيف عن العباد: لأن السفر مظنّة التعب والمشقة.
- حماية المكلّف من التقصير: فبدل أن يترك الصلاة بسبب التعب أو ضيق الوقت، خفّف الله عنه وجعلها ركعتين فقط.
- اتباع هدي النبي ﷺ: فقد كان يقصر الصلاة في السفر.
رسالة إليك أيها المسافر المبارك.
وأنت تُودّع الأهل، وتحمل حقيبتك، وتتهيأ لركوب الطائرة أو السيارة، تذكّر أنك عبد لله في كل زمان ومكان، فاجعل طاعتك ترافقك حيثما حللت.
لا تُفرّط في صلاتك، ولا تؤخرها عن وقتها، فإنها عهد بينك وبين ربك، ووصية نبيك ﷺ في آخر لحظاته.
واجعل من رحلتك فرصة لتجديد الصلة بالله، ومراجعة العهد على الطاعة والاستقامة، واحذر الغفلة، فكم من مسافر عاد وقد تبدّلت حاله، وكم من راحل لم يعد!
إن قصر الصلاة في السفر، دليل واضح على رحمة الإسلام وشموله، وأنه دين يصلح لكل زمان ومكان، لا يكلّف النفس فوق طاقتها، ولا يضعف همّتها عن الطاعة.
فاجعل سفرك طاعة، وتحركاتك عبادة، وكن سفيرًا لدينك بأخلاقك وسلوكك رافقتك السلامة، وأحاطك الله بعنايته. 🛫
شارك الفائدة مع من أحبت واذكرنا بدعوة صادقة. 🌿
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 🌿