بعد رمضان... أين العهد؟

❖ مفهوم نقض العهد

نقض العهد: عدم الوفاء بما أعلن الإنسان الالتزام به أو قطعه على نفسه من عهد أو ميثاق، سواء فيما بينه وبين الله تعالى أو فيما بينه وبين النّاس». [نضرة النعيم (11/ 5632)]

فحين نُعلن إسلامنا، فإننا نُبايع الله على الطاعة والالتزام بأوامره، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، والعقود تشمل جميع المواثيق مع الله، أو مع الناس.

لقد عاهدتَ ربك في رمضان بالصلاة، والقرآن، والصيام، وترك المعاصي… فهل كان ذلك موسمًا مؤقتًا؟ أم عقدَ وفاء لا ينتهي؟! 

قال تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ [المائدة: 7]

❖ النكوص بعد الطاعة… نقضٌ للعهد: 

قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾ [النحل: 92]، أي لا تنكثوا العهود بعد توكيدها كما نقضت تلك الحمقاء غزلها من بعد قوة.

فمن كان في رمضان قائمًا ثم عاد للغفلة، فقد أوشك أن يكون ممن غزل بالإيمان ثم نقضه بالتفريط.

❖ نقض العهد من الكبائر:

 قال الذهبي: «‌‌‌الْكَبِيرَة ‌الْخَامِسَة ‌وَالْأَرْبَعُونَ الْغدر وَعدم الْوَفَاء بالعهد، قَالَ الله تَعَالَى {وأوفوا بالعهد إِن الْعَهْد كَانَ مسؤولا} قَالَ الزجاج كل مَا أَمر الله بِهِ أَو نهى عَنهُ فَهُوَ من الْعَهْد». [الكبائر (ص168)]

وقال شيخ الإسلام ابن حجر الهيتمي: ‌‌[الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالْخَمْسُونَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ].

❖ نقض العهد علامة نفاق:

 ومما يدل على تأكد العهود وأن الإخلال بالوفاء بها كبيرة وأنه من أبرز صفات المنافقين: الحديث المتفق عليه: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَرْبَعٌ مَنْ كن فيه كان منافق خَالِصًا. وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَلَّةٌ مِنْ نِفَاقٍ. حَتَّى يَدَعَهَا: ‌إِذَا ‌حَدَّثَ ‌كَذَبَ. وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ. وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"». [صحيح البخاري (2459)، مسلم (58)]

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ (‌لِكُلِّ ‌غَادِرٍ ‌لِوَاءٌ ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ. ‌يُقَالُ: ‌هَذِهِ ‌غَدْرَةُ ‌فُلَانٍ).». [صحيح مسلم (1736)]

وهذا يدل على أن النقض لا يصدر إلا من قلبٍ مريض، خالٍ من الصدق والإيمان.

❖ آثاره في الدنيا والآخرة

إذا فُقِد الوفاء، ضاعت الثقة بين الناس، واستشرى الظلم، وتفكّكت المجتمعات.

أما في الآخرة، فقد توعد النبي ﷺ الغادرين فقال: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هذه غدرة فلان بن فلان).» [صحيح مسلم (1735)] يُرفع له لواء يفضحه على رؤوس الخلائق.

❖ الوفاء… خلق الشرفاء 

الوفاء بالعهد عنوان الرجولة والمروءة، وهو من صفات المؤمنين، لا يرضون لأنفسهم أن يُعرفوا بالخيانة، ولو في أبسط الأمور. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون: 8]، [المعارج: 32]

❖ نقض العهد.. بداية الطمس القلبي والعقوبة الربانية

 تأمل قول الله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ [المائدة: 13] «أي: ‌فبسبب ‌نقضهم ‌الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم؛ أي: أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى، {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} أي: فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها». [تفسير ابن كثير (3/ 354)]

فمن خان العهد، فقد مهّد الطريق لقسوة القلب وابتعاد الرحمة.

وقال تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 155] «‌وهذه ‌من ‌الذنوب ‌التي ‌ارتكبوها، ‌مما ‌أوجب ‌لعنتهم ‌وطردهم ‌وإبعادهم ‌عن ‌الهدى، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم،». [تفسير ابن كثير (3/ 252)]

﴿فبِما﴾ كلمة صغيرة ولكنها تحمل عتابًا إلهيًا وعقوبة ربانية شديدة، جمعت بين أدوات لغوية عظيمة المعنى: 

- الفاء: تشير إلى أن الفعل الذي بعدها جاء مباشرة بعد النقض. 

- الباء: تدل على السبب، أي أن سبب العقوبة هو النقض ذاته. 

- ما: للتوكيد، لتأكيد أن سبب اللعنة الإلهية واضح ومؤكد. 

هذا التركيب اللغوي الدقيق يعكس خطورة ما أقدم عليه بنو إسرائيل، ويظهر عدل الله في العقوبة المرتبة على فعلهم.

والمقصود بـ ﴿نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ﴾ تعني: تفكيكه، أي عدم احترام الالتزام الرباني الذي قطعوه على أنفسهم، وترك أوامر الله جانبًا، كأن لم يكن هناك عهد أصلاً. ورفضهم الالتزام بالعهد المؤكد الذي أخذوه على أنفسهم باتباع أوامر الله. 

❖الوفاء بالعهد… عبادة قلبية وسلوك راقٍ 

نقض العهد ليس مجرد خلل سلوكي، بل هو جريمة أخلاقية ودينية. إنه خيانة لله قبل أن يكون خيانة للخلق، وتفريط في أمانة الكلمة والوعد. 

فلنربّي أنفسنا على الوفاء، ولنجعل من الاستقامة بعد الطاعة ميثاق صدق، نُثبت به عهدنا مع الله، وننجو به من عاقبة الغدر في الدنيا والآخرة.

«اللهُمَّ إِنِّي ‌أَسْأَلُكَ ‌الثَّبَاتَ ‌فِي ‌الْأَمْرِ، وَعَزِيمَةَ الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ»

انشر تؤجر.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.