
شهر الله المحرم: فضائل وأحكام
إن من نعم الله – تبارك وتعالى – على عباده أن يوالي عليهم مواسم الخيرات ليوفيهم أجورهم، ويزيدهم من فضله، فما أن انقضى شهر رمضان المبارك حتى أتت الست من شوال، ثم جاء موسم الحج المبارك، ثم انقضى وتبعه شهر كريم هو شهر الله المحرم، شهر عظيم مبارك وهو أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي عظمها الله تعالى وذكرها في كتابه، ونذكر هنا بعضاً من فضائله وأحكامه:
شهور الله المحرّمة: توقير وتشريف
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]
قال الإمام القرطبي رحمه الله: «خص الله تعالى الأربعة الأشهر الحرم بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها وإن كان منهيا عنه في كل الزمان.» [الجامع لأحكام القرآن (8/ 135)]
شرف الله تعالى هذا الشهر من بين سائر الشهور، فسمي بشهر الله المحرم، فأضافه إلى نفسه؛ تشريفا له وتعظيما.
كما بين رسول الله ﷺ تحريم الله تعالى لهذه الأشهر الحرم، ومن بينها شهر المحرم، فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الزَّمَانُ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ.» [صحيح البخاري (3197)]
أفضل صيام التطوع في المحرم.
عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ. وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ.» [صحيح مسلم (1163)]
فهل المقصود صيام الشهر كاملًا؟ أم أكثره؟ 🤔
ظاهر الحديث -والله أعلم- يدل على فضل صيام شهر المحرم كاملا، وحمله بعض العلماء على الترغيب في الإكثار من الصيام في شهر المحرم.
فقد ثبت أنّ النبي ﷺ لم يصم شهرا كاملا قطّ غير رمضان فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله.
عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها؛ أَنَّهَا قَالَتْ:
«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لَا يفطر. ويفطر حَتَّى نَقُولَ: لَا يَصُومُ. وَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ. وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شهر أكثر منه صياما في شعبان.» [صحيح مسلم (1156)]
قال القاري (ت 1014هـ): «قال الطيبي: أراد بصيام شهر الله صيام يوم عاشوراء اهـ فيكون من باب ذكر الكل وإرادة البعض، ويمكن أن يقال أفضليته لما فيه من يوم عاشوراء لكن الظاهر أن المراد جميع شهر المحرم» [مرقاة المفاتيح (4/ 1411)]
قال المباركفورى: «الأمر كما قال القارىء» [تحفة الأحوذي (2/ 425)]
وقال ابن حجر الهيتمي «المعتمد أن أفضل الشهور بعد رمضان المحرم ثم بقية الحرم ثم شعبان.» [الفتاوى الكبرى الفقهية (2/ 69)]
وقال المباركفوري رحمه الله: «فإن قلت قد ثبت إكثار النبي ﷺ من الصوم في شعبان وهذا الحديث يدل على أن أفضل الصيام بعد صيام رمضان صيام المحرم
فكيف أكثر النبي ﷺ منه في شعبان دون المحرم قلت لعله لم يعلم فضل المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه أو لعله كان يعرض فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما كذا أفاد النووي رحمه الله في شرح مسلم» [تحفة الأحوذي (3/ 368)]
يوم عاشوراء اليوم العاشر من شهر الله المحرم
في هذا الشهر المبارك يوم عظيم من أعظم أيام العام ألا وهو يوم عاشوراء، وهو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، كان النبي ﷺ يتحرى صيامه كما روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ»، يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ. [صحيح البخاري (2006)]
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ. سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ. فَقَالَ: ما علمت أن رسول اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ يَوْمًا، يَطْلُبُ فَضْلَهُ عَلَى الْأَيَّامِ، إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ. وَلَا شَهْرًا إلا هذا الشهر. يعني رمضان.» [صحيح مسلم (1132)]
يوم عاشوراء: يوم نجاة ونُصرة
ومما رود في فضل هذا الشهر أنه حصل فيه حدث عظيم، ونصر مبين، أظهر الله فيه الحق على الباطل؛ حيث أنجى فيه موسى عليه السلام وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فهو يوم له فضيلة عظيمة، ومنزلة قديمة.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: «قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: مَا هَذَا، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمُ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.» [صحيح البخاري (2004)، صحيح مسلم (1130)]
فضل صيام عاشوراء
ومما ورد في فضل صيامه قول النبي ﷺ كما في حديث قتادة «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ. وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ. وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يكفر السنة التي قبله".» [صحيح مسلم (1162)]
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول: «حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. فَقَالَ رسول الله ﷺ: "فإذا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ. قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.» [صحيح مسلم (1134)]
«يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا لأن النبي ﷺ صام العاشر ونوى صيام التاسع» [شرح النووي على مسلم (8/ 12)]
لا تَظلموا أنفسكم...
إن تعظيم شعائر الله يحتاج منا إلى برهان ودليل؛ يُثبت لنا ما وَقَرَ في القلوب من الإيمان {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوب} [الحج :32].
ومن شعائر الله الواجب تعظيمها؛ الأشهر الحُرُم، ومنها شهر الله المحرم.
قال قتادة في قوله: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء، وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد. واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظِّموا ما عظَّم الله. فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل» [تفسير ابن كثير (4/ 288)]
وقد دعانا المولى عز وجل في هذه الأشهر أن نكُفَّ عن ظلم أنفسنا، ونصون قلوبنا وألسنتنا وأيدينا عن الخوض في أذى بعضنا، إذ المؤمنون كنفسٍ واحدة {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]
ومن أكثر المظالم التي يقع فيها كثير منا، إطلاق الألسن في الأعراض والنوايا، بعد البحث عن الأسرار والسرائر والطوايا، وهي من أشد أنواع ظلم الإنسان لنفسه.
فشهر (المحرم) فرصة ذهبية كبيرة، لنزع الحقد والغل من الصدور، وزرع الحب والسكينة في القلوب، وفوق ذلك تكثير الأجور والحسنات، والتعرض لرحمات ونفحات رب الأرض والسموات.
فلنغتنم هذه الفرصة العظيمة في هذا الشهر المبارك، ولنسارع بزرع الخير والحب بيننا، فشهر الله المحرم غنيمة باردة، ينبغي على المؤمن الفطن أن يغتنمها.
اكتب لنا في التعليقات:
ما خطتك لاستثمار هذا الشهر؟
وكيف ستجعل منه نقطة انطلاق نحو عامٍ جديدٍ مليء بالإيمان والطاعات؟ 🌿
وختامًا
شارك هذه الفائدة مع غيرك، لعلها تكون سببًا لهداية قلب أو إحياء سنّة نُسيت!
اللهم اجعلنا ممن يعظم شعائرك، ويغتنم مواسم فضلك، ويمضي عمره في مرضاتك.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.