سورة المرسلات.. يوم القيامة ونجاة المتقين

إنّ القلب ليهتزّ حين يقرأ آيات الله التي تُذكّر بالآخرة، وتُصوّر مشاهد القيامة تصويرًا يخلع القلوب من أماكنها. ومن أعظم السور التي حملت هذا المعنى الجليل: سورة المرسلات، تلك السورة المكية التي نزلت دفعة واحدة، فكانت كالسيل الجارف الذي يوقظ الغافلين، ويثبّت قلوب المؤمنين. 

حين تُتلى سورة المرسلات، تهبُّ على القلب نسائم الخشوع، وتتحرك في النفس مشاعر الخوف والرجاء. هي سورةٌ تطرق أبواب القلوب الغافلة، توقظها بنداءات القيامة، وتذكّرها بأنّ الحياةَ ليست عبثًا، وأنّ وراء هذه الدنيا حسابًا دقيقًا وعدلًا مطلقًا.

 

🌿سورة المرسلات ومكانتها

سورة المرسلات هي السورة السابعة والسبعون في ترتيب المصحف الشريف. وهي مكية، وعدد آياتها خمسون آية، كلُّ آيةٍ منها سهامٌ من نورٍ تخترق ظلام الغفلة.

وقد أُوتي النبي ﷺ سورة المرسلات ضمن سور المفصل الذي فُضِّل به على سائر الأنبياء.

عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: " أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ ‌الْإِنْجِيلِ ‌الْمَثَانِيَ، ‌وَفُضِّلْتُ ‌بِالْمُفَصَّلِ»

[(صحيح) مسند أحمد (16982) وفي صحيح الجامع (1059)]

فيا من تُقبِل على القرآن، اعلم أن سورة المرسلات من كنوز النبوة التي اختص الله بها نبينا ﷺ.

 

🌅 سورة المرسلات نزَلتْ جملةً واحدةً.

عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ الله عنه، قال: «بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي غَارٍ بِمِنًى، إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ: {وَالْمُرْسَلاتِ} وَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا، وَإِنِّي لَأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فَاهُ لَرَطْبٌ بِهَا»

📖 [صحيح البخاري (1830)، ومسلم (2234)]

قال ابن العربي: «وهي من غرائب القرآن ... فإنها نزلت على رسول الله ﷺ تحت الأرض.»

[أحكام القرآن لابن العربي (4/ 356)]

 

🌅 سورة المرسلات آخر سورة تلاها النبي ﷺ إمامًا

يا لها من لحظةٍ مهيبةٍ، ختم بها النبي ﷺ صلاته بالناس بسورةٍ تهزّ القلوب بآيات القيامة.

عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا، ثُمَّ مَا صَلَّى لَنَا بَعْدَهَا حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ.»

📖 [صحيح البخاري (4429)]

«والمراد - والله أعلم - ما صلى بعدها إماماً بالناس.»

📖 [فتح الباري لابن رجب (7/ 21)]

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أُمَّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ، وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّ، وَاللهِ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إِنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ.»

📖 [صحيح البخاري (763)، ومسلم (462)]

كانت سورة المرسلات آخر ما قرأه ﷺ في صلاةٍ بالناس إمامًا؛ وكأنّها وصيةٌ خاشعة من النبي لأمّته قبل الوداع: تذكّروا يوم القيامة، واستعدّوا له قبل أن يُطوى بساط العمر.

فهي سورة وداعٍ مملوءة بالإنذار والرحمة في آنٍ واحد، تحثّ المؤمنين على الثبات، وتدعو الغافلين إلى التوبة.

فكانت سورة المرسلات آخرَ ما جهرَ بهِ النبيُّ ﷺ إمامًا بالناس، وفي ذلك إشارةٌ بليغةٌ إلى ختام الرسالة وبداية اللّقاء، فكأنَّها آخرُ نداءٍ من نبيٍّ ودَّعَ الدنيا وقد بلَّغَ الأمانة.

🌿 تأمَّلْ:

كيف خُتِمَت حياتُه ﷺ بآياتٍ تُذكِّرُ بالبعثِ والجزاء، وكأنّه ﷺ يُودِّع أُمّتَه برسالةٍ خالدة: استعدّوا ليوم الفصل، واثبتوا على الإيمان.

كانت ختامًا مؤثرًا في حياة النبي ﷺ مع الأمة، لتبقى وصيةً متجددة: تذكير بالقيامة، وإنذار للمكذبين، وبشارة للمتقين. 

 

 🌧️ نزول سورة المرسلات وهيبة تلاوتها

تأمل هذا المشهد المهيب: نبيٌّ يتلقى الوحي في غارٍ، وجوه الصحابة تتهلل بنور القرآن، والملائكة تنزل بالحقّ من عند الرحمن...فأيّ شرفٍ أعظم من أن تسمع آيات القيامة وهي تتنزل لأول مرة من السماء؟

 

🔥 السورة التي شيّبت النبي ﷺ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ، قَالَ: «‌شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالوَاقِعَةُ، وَالمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»

[(صحيح) سنن الترمذي (3297) والصحيحة (955)]

وما شيّب النبي ﷺ إلا ما حملته هذه السور من مشاهد القيامة وأهوالها. 

إنها سورة تزلزل القلب بذكر أهوال القيامة، وتفصيل مصير المكذبين. شيّبته لما فيها من عِظَم المسؤولية أمام الله، ومن تصويرٍ مهيبٍ ليوم الفصل حين يقال: ﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ [المرسلات: 19]

 

هذه العبارة المتكرّرة تُقرع القلب إحدى عشرة مرة، لتؤكد أنّ التكذيب بالآخرة طريق الهلاك، وأنّ النجاة في التصديق والعمل.

 

 🏔️ عرض سورة المرسلات ومعانيها الكبرى

افتتح الله تعالى السورة بالقسم على وقوع يوم القيامة، ثم فصّل أحوال المكذبين والمتقين، ليكون ذلك زاجرًا عن المعصية، وداعيًا إلى الطاعة.

تبدأ السورة بالقَسَم الإلهي:

﴿وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا﴾ [المرسلات: 1-6]

في مطلع سورة المرسلات، أقسم الله بالرياح التي تسوق الغيوم، وبالملائكة التي تنشر أوامر الله في الأرض، وتُرسل بأمر الله بالخير والشر، بالعذاب والرحمة، وبالرسل الذين يبلّغون الحق للناس.

ثم يأتي جواب القسم: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ [المرسلات: 7]

أي: أن ما وعد الله به من القيامة والعقاب والثواب لا مفرّ منه، سيقع لا محالة، فهو وعد الحق الذي لا يتخلّف.

وتتوالى الآيات لتُرينا مراحل الخلق، وعظمة البعث، وسهولة الإحياء بعد الموت: ﴿أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21)﴾ [المرسلات: 20-21]

إنها حججٌ ربانية تُوقظ العقل وتُبطل إنكار المنكرين. فكما خُلق الإنسان أول مرة من نطفةٍ ضعيفة، فإن الذي أنشأه قادرٌ على إعادته بعد فنائه.

 

🌸 مصير المكذّبين والمتقين

تصوّر السورة مشاهد رهيبة للعذاب: ﴿انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)﴾ [المرسلات: 30-32]

فيتطاير الشرر كالقصر، وكأنّ ألسنة اللهب تناديهم بالهلاك. إنه تصوير بليغ يجعل القلب يرتعد خشيةً من مقام الله.

 

ثم تنتقل السورة بلطفٍ إلى مشهدٍ مهيبٍ آخر يملؤه الأنس والنور:

﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)﴾ [المرسلات: 41-43]

يا الله! بعد الوعيد يجيء الوعد، وبعد النار يجيء النعيم، وبعد ويلٌ للمكذبين يأتي: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا.

هكذا يوازن القرآن بين الخوف والرجاء، بين زجر النفس وتثبيتها، فيتربّى المؤمن على الاعتدال والإخلاص.

 

 🕯️أثر سورة المرسلات في التربية

سورة المرسلات مدرسة تربوية كاملة تُنذر وتبشّر وتزكّي.

تربي في القلب يقينًا صادقًا بالبعث والنشور. فمن أيقن بالقيامة زهد في الدنيا واستعد للقاء الله.

تبعث الخشوع في الصلاة والتدبر في القرآن.

   فقد كان النبي ﷺ يقرأها في المغرب، وكأنّه يريد أن يربط أمّته بين ذكر القيامة وبداية ليل التأمل والمحاسبة.

تزرع في النفس الأمل رغم الوعيد.

   لأنّ ختامها نورٌ ورحمة: ﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [المرسلات: 50]

   أي: إن لم يؤمنوا بهذا القرآن، فبأيّ كلامٍ يوقنوا؟!

 

🌼موضوعات سورة المرسلات:

1- القسم على وقوع القيامة، وأنه آت لا شك فيه، وذكر بعض أهوال يوم القيامة.

2- الاستدلال على وقوع البعث، وذكر بعض مظاهر قدرة الله تعالى: من خلق الإنسان والأرض والجبال.

3- وعيد المكذبين، ووصف عذابهم في الآخرة.

4- وصف نعيم المتقين، وحسن عاقبتهم، وأنواع كرامتهم.

5- التعجيب من أحوال الكافرين، وشدة عنادهم وتعنتهم.

 

 🌼دروس وعبر من سورة المرسلات

أيها الباحث عن النور، يا طالب العلم الساعي للحق، إنّ سورة المرسلات تضع بين يديك منهجًا في الدعوة والإصلاح:

تذكير القلوب بالآخرة هو أساس التربية الإيمانية.

تعلّم من السورة الحزم والرحمة في الدعوة، فالقرآن جمع بين الوعيد الشديد والوعد الكريم، ليوازن بين الخوف والرجاء.

 

🌸 استحضر دائمًا مشهد القيامة في حياتك اليومية.

أيها الأحبة، إن سورة المرسلات هي نداء رباني يذكّرنا بأن يوم القيامة آتٍ لا محالة، وأن المصير إمّا جنة أو نار. فلنقف مع أنفسنا وقفة صدق، ولنُكثر من الطاعات، ولنبتعد عن المعاصي، ولنجعل هذه السورة زادًا لنا في طريق الآخرة.

قبل أن تنطق بكلمةٍ أو تخطو خطوة، تذكّر قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ﴾ [المرسلات: 7]

 

🌙 خاتمة دعوية مؤثرة

يا من قرأتَ سورة المرسلات، لا تدعها تمرّ على أذنك دون أن تهزّ قلبك.

اجعلها نبراسًا لتوبتك، ووقودًا لإيمانك، ودليلًا على صدق يقينك.

 

💬 شارك هذه الفائدة مع من تحب، واكتب تعليقًا بما أثّر في قلبك من معانيها، لعلها تكون سببًا في هداية غيرك، فالدالّ على الخير كفاعله.

 

«سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ».

وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

هل انتفعت بالفائدة

______

للاستزادة

الدرر السنية - موسوعة التفسير - سورةُ المُرسَلاتِ