
بعون الله تعالى وتوفيقه نتابع ما تبقى من الفائدة السابقة. آية الكرسي: أعظم آية في القرآن
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)﴾ [البقرة: 255]
4. ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ شمول مُلكه لكل شيء:
الجميع عبيده وفي مُلكه، وتحت قهْره وسلطانه. لا يشاركه أحدٌ في ملكه، ولا يملك أحدٌ معه شيئاً.
هذا يعني أن كل ما في الوجود، من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة، ملكٌ خالصٌ لله تعالى، وهو المتصرف فيه كيف يشاء.
قال تعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)﴾ [آل عمران: 26-27]
هذا المعنى يغرس في القلب الطمأنينة الكاملة والتوكل المطلق على الله، فمادام كل شيء بيده، فلا خوف ولا قلق من أي مخلوق.
5. ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾:
هذه الجملة من آية الكرسي تُظهِر عظمة الله وجلاله وكمال كبريائه، فلا أحد يجرؤ أن يشفع عنده إلا بإذنه، ولا يقبل الله الشفاعة إلا ممّن رضي قوله وعمله، وتكون لمن ارتضى الله حاله من عباده.
الشفاعة الباطلة والشفاعة الحق
قال تعالى: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28].
وهذا نصٌّ قاطع في إبطال الشفاعة الباطلة التي يطلبها الجهّال من الأموات أو الأصنام أو الأولياء بغير إذن الله تعالى، وتثبت أنّ الشفاعة الحق إنما تكون بإذنه ورضاه.
وجاء في حديث الشفاعة الطويل:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي، فَيُؤْذَنُ لِي فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ رَبِّي، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا، فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمَّدُ، قُلْ تُسْمَعْ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَحْمَدُ رَبِّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، قَالَ: فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ، أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: فَأَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا بَقِيَ فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ» أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ.[صحيح البخاري (6565)] وصحيح مسلم (193)]
فلا شفاعة إلا بإذن الله؛ إذْن لِمَن يَشفع (الشافع)، وإذْن لِمَن يُشفَع له؛ قال تعالى: ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ: 23]، وقال: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 28]. فلا تَطلب الشفاعة إلاَّ من الله الذي بيده الأمر كله، واعلمْ أنَّ الشفاعة لا يأذن بها الله للمشركين؛ قال تعالى: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر: 48].
6. ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ علمه المحيط:
هذا دليلٌ على إحاطة علم الله المطلق بجميع الكائنات؛ ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم السر وأخفى.
وهذا يشمل علم الله بكل ما فعله العباد وما سيفعلونه، وما يحيط بهم من أمور الدنيا والآخرة.
كما قال تعالى إخبارًا عن الملائكة: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: 64].
هذا العلم المطلق يدعو العبد إلى مراقبة الله في كل أحواله، وإلى اليقين بأن أعماله محصاة عليه، فلا يضمر سوءًا ولا يفعل شراً إلا والله مطلع عليه.
7. ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾:
أي: لا يطَّلع أحدٌ على شيءٍ مِن عِلْم الله الغيبي، إلاَّ بما أعْلَمَه الله عزَّ وجلَّ وخصَّه به من رسله أو ملائكته أو من شاء من عباده الصالحين. فكل ما وصَل إليه الإنسان من عِلْم، سواء كان علمًا دنيويًا أو شرعيًا، فهو بفضل الله وتعليمه وإذنه.
وكما قال الملائكة لربِّهم معترفين بضعفهم وجهلهم المطلق إلا ما علمهم ربهم: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32]
هذه الآية تعلمنا التواضع في طلب العلم، والاعتراف بأن الله تعالي هو من وهب كل علم، فالعلم عبادة قبل أن يكون معلومة.
وما أوتينا من العلم قليل. قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85].
8. ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾. سعة الكرسي:
هذه الجملة تصف عظمة الله وقدرته وسعة ملكه. الكرسي هو المخلوق العظيم الذي ورد في الكتاب والسنة، والذي هو تحت العرش وفوق السماوات السبع والأرضين.
وقد صحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما قولُه: "الكرسي: موضع القَدَمين، والعرش لا يقدر قَدْرَه إلاَّ الله تعالى".
تأمل هذه العظمة؛ كيف يحيط هذا الكرسي العظيم بكل السماوات والأرض.
هذا يعطينا تصورًا عن عظمة خالقه، وعن اتساع ملكه وسلطانه الذي لا يحده حد، ولا يحيط به وصف.
9. ﴿وَلَا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾:
أي لا يثقله ولا يعجزه حفظ السماوات والأرض وما فيهما، بكل ما تحويان من مخلوقات وتفاصيل دقيقة.
10. ﴿َهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾:
﴿الْعَلِيُّ﴾: فهو العَلِي بذاته على جميع مخلوقاته؛ علو منزلةٍ ورفعةٍ، وعلو قهْرٍ وسلطانٍ على كل ما سواه. لا يعلو عليه شيء، ولا يدانيه شيء في علوه.
﴿الْعَظِيمُ﴾ سبحانه وتعالى هو الكبير المتعال، ذو العظمة والجلال والكبرياء.
لا يحيط به وصف، ولا يدرك كنهه عقل. فلا مَلْجأ ولا مَنْجا منه إلاَّ إليه، وهو حسبُنا ونِعم الوكيل.
هذه الخاتمة تؤكد على أن الإله الموصوف بهذه الصفات هو وحده المستحق للعبادة، المستحق للحب والخوف والرجاء، واللجوء إليه في كل أمر.
آية الكرسي حرز من الشيطان عند النوم:
أخرج الإمام البخاري في صحيحه قصة أبي هريرة رضي الله عنه مع الشيطان الذي كان يحثو من تمر الصدقة، حيث قال له الشيطان: " إذا أويتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أوَّلها حتى تَختم الآية: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم﴾، لن يزال عليك من الله حافظٌ، ولا يَقرَبك شيطان حتى تُصبِح. وقد صدّقه النبي ﷺ بقوله: "صدقك وهو كذوب". [صحيح البخاري (2311)]
هذا الحديث الشريف يبين لنا بوضوح أن آية الكرسي حرزٌ من الشيطان لمن قرأها عند النوم.
آية الكرسي سبب لدخول الجنة بعد الموت:
عن أبي أُمامة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله ﷺ -: "مَن قرأ آية الكرسي دُبر كل صلاة مكتوبة، لَم يمنعْه من دخول الجنة إلاَّ أن يموت". (رواه النسائي
[(صحيح) السنن الكبرى (9928) وفي صحيح الجامع (6464)، وسلسلة الصحيحة (972)].
نحو فهمٍ صحيحٍ
لا بد أن ندرك أن فضل آية الكرسي مرتبط بتلاوتها وتدبرها والعمل بمقتضاها، لا مجرد تعليقها أو الزينة بها.
إن هذه الأمور كلها مُحْدَثات لم يفعلها الصحابة الكرام ولا التابعون لهم بإحسان، ولا الأئمة الأربعة المتبوعون، ولا من سار على نَهجهم القويم. لقد كان سلفنا الصالح يقرؤون القرآن ويعملون به، ويتدبرون آياته، ويستنبطون أحكامه ومعانيه، لا أن يتخذوه تمائم أو زينة.
بعد هذه الرحلة الإيمانية مع آية الكرسي، وبعدما تبين لنا من معانٍ عظيمة ودروسٍ جليلة، وفضائل مباركة، يتجلى لنا بوضوح سر هذه العظمة.
إنها آيةٌ تجمع بين التوحيد الخالص لله، وبيان كمال صفاته وعلمه وقدرته، وبين حماية العبد ورعايته. إنها ليست مجرد كلمات تُتلى، بل هي نورٌ يضيء البصائر، وشفاءٌ لما في الصدور، وحصنٌ حصينٌ لمن التزم بها.
أيها المؤمنون، لنجعل من هذه الآية العظيمة (آية الكرسي) رفيق دربنا، فنتلوها بتدبر وخشوع، ونستحضر معانيها في قلوبنا وعقولنا، ونجعلها جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. لنحيي سنة النبي ﷺ بالمداومة على تلاوتها قبل النوم، وبعد كل صلاة مفروضة، وفي أذكار الصباح والمساء. ولنتجنب البدع والمحدثات التي لا أصل لها في الشرع، والتي قد تحرمنا من بركة هذه الآية وفضلها.
فلنسارع إلى هذه الخيرات، ونسعى لتحقيق هذه الغايات، سائلين الله أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
نسأل الله أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا، وأن يرزقنا تدبر آياته والانتفاع بها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
شارك هذه الفائدة مع غيرك، وساهم في نشر العلم النافع والعمل الصالح.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
_____________
هل استفدت من هذه الفائدة؟