حمل المصلي الآن
مدونة المصلي >> تاريخنا

الهجرة النبوية: منهج حياة 🌿

الهجرة النبوية: منهج حياة 🌿
2025‏/07‏/14
24٬339

دروس في الإيمان والتخطيط والتضحية 🌿

ليست الهجرة النبوية حدثًا عابرًا في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل هي نقطة تحول فارقة، تحمل معاني النهوض، وملامح التخطيط، وروح الإيمان، وعمق الثقة بالله، حتى غدت نموذجًا يُستلهم منه عبر الزمن دروس النصر، وصناعة الحضارة، وإقامة الدين في واقع الناس.

 

معنى الهجرة وحدودها الشرعية

الهجرة في أصلها انتقال من أرضٍ تضيق فيها سبل الحرية والعقيدة إلى أرضٍ تتسع فيها دوائر الإيمان والعبادة. وهي بذلك لا تقتصر على صورة جسدية، بل تشمل مضمونًا عقديًّا وغايةً شرعيّةً. وقد سجل القرآن هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97]، مما يدل على أن الهجرة واجبةٌ على من لا يستطيع إقامة دينه في مكانه.

والهجرة بمعناها الشرعي، باقيةٌ إلى قيام الساعة، ما دامت الفتنة قائمة، والحرية الدينية محجوبة.

الهجرة في سياق الرسالات السماوية

الهجرة ليست خاصةً بالنبي ﷺ، بل هي سُنةٌ جارية في حياة الأنبياء، فها هو إبراهيم عليه السلام يعلنها واضحة: ﴿وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي﴾ [العنكبوت: 26]، وموسى عليه السلام يخرج من بطش فرعون إلى مدين.

لكن ما ميّزَ الهجرة النبوية أنها جاءت بعد إعداد طويل، وتخطيط دقيق، وتكامل في الأدوار، وانطلقت لتأسيس دولة، وبناء أمة، وحمل رسالة للعالمين، فكانت أعظم الهجرات أثرًا، وأصدقها رسالةً.

 

الهجرة النبوية ليست فرارًا

الهجرة لم تكن هروبًا من واقع أو خوفًا من بطش، بل كانت فرارًا إلى الله، وتخطيطًا لحمل الدين إلى فضاءٍ أوسع. كانت نقلًا إستراتيجيًّا من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين، بل كانت بدءًا لبناء صرح الإسلام العملي، وترسيخًا لحق الأمة في إقامة دينها بحرية.

 

نماذج مضيئة من مدرسة الهجرة

أولًا: الصداقة في أسمى صورها 🌹

أبو بكر الصديق رضي الله عنه، تجلت في شخصه معاني الصحبة والإيثار، فقد قدّم نفسه وماله وأسرته فداءً للدعوة. لم يكتفِ بالمرافقة، بل كان شريكًا في كل تفاصيلها.

عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِجِبْرِيلَ عليه السلام: "‌مَنْ ‌يُهَاجِرُ ‌مَعِي؟ ". ‌قَالَ: ‌أَبُو ‌بَكْرٍ ‌الصِّدِّيقُ. [(صَحِيحٌ غَرِيبُ) المستدرك على الصحيحين (4310)]

وقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لأبي بكر: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ ‌قَدْ ‌أُذِنَ ‌لِي ‌فِي ‌الْخُرُوجِ، قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: الصُّحْبَةَ.» [صحيح البخاري (2138)]

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم إن أَحدًا يبكي من الفرح، حتى رأَيت أَبا بكر يبكي يومئذ.

تعالوا بنا لنستمع إلى عائشة رضي الله عنها وهي تخبرنا الخبر.

قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ مُتَقَنِّعًا، فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدَاءٌ لَهُ أَبِي وَأُمِّي، وَاللهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ. قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَإِنِّي ‌قَدْ ‌أُذِنَ ‌لِي ‌فِي ‌الْخُرُوجِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصَّحَابَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: نَعَمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: بِالثَّمَنِ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجَهَازِ، وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ، فَكَمَنَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ، ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْرًا يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ، حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ، وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ،... وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فَدَفَعَا إِلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا، وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَالدَّلِيلُ، فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّوَاحِلِ.» [صحيح البخاري (2297)]

وكم تجلّى التفاني في أسرته: من عبد الله ناقل الأخبار، إلى عامر بن فهيرة خادم الغار، إلى أسماء ذات النطاقين.

 

ثانيًا: الجندية والفداء 🌿

تجلّت أروع صور التضحية في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، حين نام على فراش النبي ﷺ مفديًا له بنفسه. مشهد يعبّر عن فدائية نادرة، وولاء لا يعرف التردد. هكذا تُصنع النماذج الخالدة في تاريخ الشعوب.

عن ابن عبّاس قال: شَرَى عليٌّ نفسَه ولبس ثوبَ النبي ﷺ، ثم نام مكانَه، وكان المشركون يَرمُون رسولَ الله ﷺ، وقد كان رسولُ الله ﷺ ألبَسَه بُرْدَه، وكانت قريش تريدُ أن تقتلَ النبيَّ ﷺ، فجعلوا يَرمُون عليًا، ويُرَونه النبيَّ ﷺ وقد لبِسَ بُرْدَه، وجعلَ عليّ يَتَصَوَّرُ، فإذا هو عليٌّ، فقالوا: إنك لَلَئيمٌ، إنك لَتتضوَّر وكان صاحبُك لا يَتضوَّر، ولقد استَنْكرناه منكَ» [المستدرك على الصحيحين (4309)]

وأمر عليا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه، ويريدون بياته، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها، فخرج رسول الله ﷺ عليهم فأخذ حفنة من البطحاء، فجعل يذره على رءوسهم، وهم لا يرونه، وهو يتلو: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}[يس: 9] ومضى رسول الله ﷺ إلى بيت أبي بكر، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا، وجاء رجل ورأى القوم ببابه فقال: ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا، قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم وذر على رءوسكم التراب، قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم [زاد المعاد (3/ 46)]

«أما قريش فقد جن جنونها حينما تأكد لديها إفلات رسول الله ﷺ صباح ليلة تنفيذ المؤامرة. فأول ما فعلوا بهذا الصدد أنهم ضربوا عليا، وسحبوه إلى الكعبة، وحبسوه ساعة، علهم يظفرون بخبرهما. ولما لم يحصلوا من عليّ على جدوى جاؤوا إلى بيت أبي بكر، وقرعوا بابه، فخرجت إليهم أسماء بنت أبي بكر، فقالوا لها: أين أبوك؟ قالت: لا أدري والله أين أبي؟

فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدها لطمة طرح منها قرطها» [الرحيق المختوم (150، 149)]

 

ثالثًا: التوكل في أرفع مقام 🌿

قال تعالى: ﴿إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ [التوبة: 40] 

﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾. كلمات تختزل كل معاني الطمأنينة والتوكل والثقة بالله. فالنبي ﷺ أخذ بالأسباب كلها: التخطيط، تغيير المسار، تحديد الدليل، تأخير الخروج، استخدام الغار، ثم اعتمد بعد ذلك على الله، لا على الأسباب.

عن أَنَس بْنُ مَالِكٍ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ حَدَّثَهُ قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ المشركين على رؤوسنا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ "‌يَا ‌أَبَا ‌بَكْرٍ! ‌مَا ‌ظنك ‌باثنين ‌الله ‌ثالثهما.» [صحيح البخاري (3653) ومسلم (2381)]

 

رابعًا: المرأة في مشهد الهجرة 🌹

الهجرة لا تكتمل دون الحديث عن دور المرأة. فـأسماء بنت أبي بكر قدمت مثالًا راقيًا في الوعي والدور الفاعل. لم تكن مجرد ناقلة طعام، بل كانت جزءًا من منظومة متكاملة، تؤدي دورها بثبات، وحين لُطمت لم تَجْزَع، ولم تُفْشِ سرًّا، بل أكملت مسيرتها، حتى استحقت لقب "ذات النطاقين".

 

خامسا: الهجرة وتجديد الأمل للأمة 🌿

حال أمتنا اليوم لا يختلف كثيرًا عن حال النبي ﷺ في الغار. مؤامرات، حصار، عداوات، تشتت، ضعف ظاهر.. لكنْ مع الإيمان العميق بوعد الله، والعمل المتقن، والتوكل الصادق، سينهض الإسلام من جديد. فالعقبات تولِّد الانتصارات، والمِحن تصنع الأمم، ولا يأس مع الإيمان، ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: 87] 

 

سادسا: من الغار إلى التمكين

بعد رحلة محفوفة بالأخطار، وصل النبي ﷺ إلى المدينة، لتبدأ مرحلة بناء الدولة: تأسيس المسجد، المؤاخاة، صياغة دستور التعايش، ثم الانتقال إلى مراحل القوة والانتصار. عشر سنوات فقط، كانت كافية لتَخْضَع الجزيرة العربية كلها لهذا الدين، وتتحقق بشرى الهجرة في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 40] 

 

خاتمة

الهجرة النبوية ليست مجرد تأريخ، بل هي منهج حياة، ورسالة نهوض، ونموذج في الإعداد والإيمان والتضحية.

فما أحوج أمتنا اليوم أن تقرأ هذا الدرس بقلب مؤمن، وعقل يتدبر، ويد تعمل.

لا تنسي النشر والمشاركة لتعمّ الفائدة ويعظم الأجر 📢
وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

بحث

الأكثر تداولاً

مقالات متعلقة

2025‏/06‏/23
26٬853

كن من رجال الفجر 🌍

بُحَّت منابر الأذان من النداء، وتبللت محاريب المساجد بدموع الشوق، تنادي لـ صلاة الفجر في سكون الليل: أين رجال الفجر؟

2025‏/07‏/09
38٬427

الجمال الحقيقي في ميزان الإسلام

إنّ جمال المرأة الحقيقي هدية من الله، تُصان بطاعته، وتُهدر بمعصيته. فتجمّلي بطهرك، وتألقي بعفافك، وتزيّني بما أحل الله، ودعي زينة الباطل لأهلها.

2025‏/07‏/02
44٬438

رسالة ربانية لكل مهموم 🕊️

تبقى كلمات القرآن بلسمًا للقلوب، وعلاجًا للهموم، ومنها تلك الكلمة الخالدة التي نطق بها النبي ﷺ لصاحبه في الغار

مع تطبيق المصلي تعرف على المساجد القريبة أينما كنت بمنتهى الدقة

حمل المصلي الآن

مدار للبرمجة © 2025 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة

Powered by Madar Software