
هو فقيه الأمة المقدم، وعلمها الشامخ، وإمامها المنفرد، عالم قريش، ومجدد المائة الثانية أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي، وجده «السائب بن عبيد» هو حامل لواء بني هاشم يوم بدر في صف الكافرين، ووقع في الأسر يومها، ثم دخل الإسلام، وابنه شافع بن السائب من صغار الصحابة.
وُلد الشافعي سنة 150هـ، بغزة، وقد مات أبوه وهو رضيع، فحملته أمه إلى مكة وهو ابن عامين حتى لا يضيع نسبه، فأقبل على قراءة القرآن، فحفظه وهو في السابعة، وأقبل على العلم وبانت مهارته الفائقة في الحفظ، فحفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، ثم دخل البادية وسكن قبيلة هذيل ليتقن اللغة العربية وعلومها ويصح منطقه ولفظه، وهذيل أفصح قبائل العرب، تلقى العلوم أولاً على يد مسلم بن خالد الزنجي، الذي أذن له بالفتيا وهو ابن الخامسة عشرة، وسمع من سفيان بن عيينة بمكة والإمام مالك بن أنس بالمدينة وقد تنبأ له الإمام مالك بالمستقبل الكبير في العلم والإمامة.
ولأن لكل عالم وصاحب فضل ومنزلة وحب عند الناس، حقدًا وحسدًا من الخصوم والأقران، فلقد سعى بعض الحسّاد عند الخليفة «هارون الرشيد» بأن الشافعي يسعى للخروج على الخلافة، وكان الشافعي وقتها مقيمًا باليمن، وكانت اليمن مركزًا للشيعة وموطنًا للكثير من الثوار، فأمر الرشيد باستدعاء الشافعي وذلك سنة 184هـ، فلما سمعه تحقق من براءته، وكذب الوشاة بحقه وكانت هذه الوشاية فاتحة خير على الشافعي، إذ لم يعد بعدها لليمن، بل توجه إلى مكة وجلس لعلمائها وخاصة محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة، واستفاد منه كثيرًا، وكانت مكة قبلة علماء الأمصار فالتقى الشافعي معهم، وجرت له مناظرات وحوارات أَثْرَتْ الفقه الإسلامي.
وفي سنة 195هـ دخل الشافعي العراق وأقام بها عامين، كون خلالها أتباعًا له ولمذهبه وأصبح له تلاميذ، يأخذون عنه ويملي عليهم فقهه وكتبه التي عرفت في مذهبه «بالقديم» ثم عاد إلى مكة، فأقام بها أشهرًا، ثم عاد إلى العراق، وأصَّل مذهبه وكثرت تلاميذه وأتباعه حتى غلب مذهبه على مذهب أبي حنيفة، ثم انتقل إلى مصر لسماع أحاديث لم يتسن له سماعها من الحجازيين، وفي مصر سمع الكثير من الأحاديث التي غيرت مذهبه والذي عرف بالجديد وظل مقيمًا في مصر، وتولى نشر مذهبه بنفسه، وأقبل عليه طلبة العلم يأخذون عنه، وكان الشافعي قوي الحجة، واضح البيان، عذب المنطق، فتحول كثير من المالكية إلى مذهبه، وقد أجله المصريون حيًا وميتًا، وغالى فيه بعضهم، حتى إن الشافعي عند الكثيرين مصري وليس حجازيًا.
ولقد أثنى الناس عليه، منهم عبد الرحمن بن مهدي الذي كان يدعو للشافعي في صلاته، وكذلك كان يفعل سفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل، الذي قال عن الشافعي: «إن الشافعي مثل الشمس والعافية للناس، لا غنى للناس عنهما» وقال أبو عبيدة: «ما رأيت أفصح ولا أعقل ولا أورع من الشافعي» وقال ابن خزيمة: «أي سنة لم تبلغ الشافعي ليست بسنة» وقال داود الظاهري: «للشافعي من الفضائل مالم يجتمع لغيره من شرف نسبه وصحة دينه ومعتقده وسخاوة نفسه ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه وحفظ الكتاب والسنة، وحسن التصنيف وجودة الأصحاب والتلامذة مثل أحمد بن حنبل وغيره».
وكان الشافعي صحيح العقيدة، على نهج السلف الصالح، فهمًا وتطبيقًا، شديدًا على أهل البدع والمتكلمين، وتكلم عن مسألة خلق القرآن قبل وقوع الفتنة بسنين طويلة، كأنه استشرف ما سيحدث فقال: «القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر» وله حوارات مع المعتزلة خاصة كبيرهم «حفص الفرد» وتفرس في بشر المريسي أنه سيكون من أهل البدع.
أما عن مؤلفات الشافعي، فلقد كان الشافعي أول من كتب في أصول الفقه، في كتابه الشهير «الرسالة» وكل من كتب بعده في أصول الفقه عيال على الشافعي، وله كتاب الأم في فقه مذهبه وله الأقوال والفتاوى والحوارات مجموعة في كتب المذهب، جمعها تلاميذه وأتباعه.
وقد توفي الشافعي رحمه الله بعد معاناة شديدة مع المرض، إذ كان مصابًا ببواسير مزمنة، وكان ينزف الكثير من الدم، كلما ركب أو تحرك كثيرًا، وذلك يوم الجمعة 30 رجب 204هـ عن أربع وخمسين سنة، فرحمة الله عليه، وجزاه عن أمة الإسلام خير الجزاء.
راجع: سير أعلام النبلاء (10/5)، طبقات الشافعية، الجزء الأول، تاريخ بغداد (2/56)، وفيات الأعيان (4/163)، البداية والنهاية (10/274)، شذرات الذهب (2/9)، الفهرست ص263، حلية الأولياء (9/63)، صفة الصفوة (1/433)، المنتظم (10/134)، تذكرة الحفاظ (1/361)، طبقات الحفاظ ص152.