تعتبر جزيرة صقلية من أهم جزر البحر المتوسط وأكبرها، إذ تبلغ مساحتها 25460 كيلو مترًا مربعًا، وهي تقسم البحر المتوسط إلى قسمين وتتحكم في ممراته، ولا يفصلها عن شبه جزيرة إيطاليا سوى مضيق [مسينا] والذي لا يزيد عرضه على خمسة كيلو مترات، وقد فتح المسلمون صقلية أيام دولة بني الأغلب التي كانت تحكم معظم الشمال الإفريقي، وذلك على يد القاضي الفقيه المجاهد أسد بن الفرات وذلك سنة 212هـ، وطردوا منها البيزنطيين وأقاموا دولة إسلامية مزدهرة بها.
لم ينعم المسلمون بالاستقرار التام في هذه الجزيرة بسبب إمداد البيزنطيين للثوار بها خاصة من ناحية الشرق الذي لم يستطع المسلمون السيطرة عليه، وبعد سقوط الدولة الأغلبية سنة 296هـ دخلت صقلية فترة طويلة من الفوضى والاضطراب من سنة 300هـ حتى 336هـ، واستقل كل قائد وزعيم مسلم بحصنه أو قلعته، ورفض الصقليون الدخول في طاعة الدولة الفاطمية بسبب فساد العقيدة والضلالات التي عليها هذه الدولة، ولكنهم في النهاية اضطروا للدخول في طاعتهم بعد تزايد التهديدات البيزنطية للجزيرة، فولى الفاطميون على الجزيرة رجلاً ذا كفاءة ومهارة وهو الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي، وقد أثبت الحسن الكلبي أنه من أقدر الولاة الذين حكموا صقلية، فنشر الأمن والطمأنينة والهدوء وجمع كلمة أهلها وظل أولاده وأحفاده يحكمون صقلية 95 سنة، هي العصر الذهبي للحكم الإسلامي للجزيرة، وكان الولاة الكلبيون يشغلون أهل الجزيرة بالجهاد في سبيل الله في جنوب إيطاليا عن الخلاف فيما بينهم.
وفي ذي القعدة سنة 371هـ، هجم أمير بيزنطي اسمه [بردويل] بجيش بري ضخم وأسطول بحري مثله على شرق الجزيرة واستولى على منطقة قلعة مالطة وسبى حريمها وغنم أموالها، فسار إليه والي الجزيرة الأمير أبو القاسم بن الحسن الكلبي بجيش صغير، أعده على عجل لاستنقاذ أسرى المسلمين، فلما وصل المسلمون رأوا من ضخامة عدوهم، ما جعل أبا القاسم يقرر العودة لتجهيز جيش كبير لمواجهة العدوان البري والبحري البيزنطي.
كان أسطول البيزنطيين يساير المسلمين من البحر ويرقب تحركاتهم، فلما عزم أبو القاسم على الانسحاب، أخبروا أميرهم [بردويل] بالأمر وقالوا له [إن المسلمين خائفون منك، فالحق بهم فإنك تظفر]، فأسرع [بردويل] خلف المسلمين بمنتهى السرعة حتى أدركهم في 20 محرم سنة 372هـ واستعد المسلمون للقتال، فاقتتلوا واشتدت الحرب بينهما، فحمل طائفة من الأعداء على قلب الجيش المسلم وشقوا الصفوف حتى وصلوا لمكان الأمير أبي القاسم وحاول خاصة حراسه وأبطاله الدفاع عنه ولكنه سقط قتيلاً في أرض المعركة، وكان قتله إيذانًا بتحول سير المعركة بالكلية.
عندما سقط الأمير أبو القاسم قتيلاً هو وأعيان المسلمين بأرض المعركة، اشتد ذلك على نفوس المسلمين وحميت قلوبهم، إذ إنه من الأعراف القتالية ألا يترك قائد الجيش هكذا فريسة سهلة للعدو، فتذامر المسلمون فيما بينهم وتبايعوا على القتال حتى النصر أو الشهادة، واشتد الخطب في القتال، وقاتل المسلمون بمنتهى الضراوة، ووقعت الهزيمة المنكرة على البيزنطيين وقتل منهم أربعة آلاف قتيل ووقع في الأسر معظم القادة، وفر بردويل ناجيًا بنفسه لا يلوي على كبير ولا صغير، وظل المسلمون يطاردونهم حتى خرجوا من الجزيرة كلها.
كان الأمير أبو القاسم محببًا للناس، عادلاً حسن السيرة، كثير الشفقة على رعيته والإحسان إليهم عظيم الصدقة، ولم يخلف دينارًا ولا درهمًا ولا عقارًا، وقد وقف جميع أملاكه على الفقراء وأبواب البر، ثم ختمت حياته بالسعادة.