
قد يبتعد المسلم عن بلده في سفرٍ قصيرٍ أو طويل، فتَعْرِض له مواقف تتعلّق بـ الصلاة في السفر، فيسأل نفسه: هل يجوز أن يصلّي على الراحلة؟ وهل يُشرع له أن يصلّي في الطائرة أو في السفينة؟ وكيف تُصلَّى السنن الرواتب والنوافل في حال السفر ؟
إن أحكام الصلاة في السفر تمسّ حياة المسلم والمسافر خاصة، وتُبيّن سماحة الإسلام ويُسره في التعامل مع واقع الناس.
هل يجوز صلاة الفريضة على الراحلة؟
الأصل أن صلاة الفريضة لا تجوز على الراحلة إلا لعذر، كخوف أو مرض أو عذر يمنع النزول، وذلك باتفاق المذاهب الفقهية الأربعة: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، وحكي الإجماع على ذلك.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِي السفر عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً، صَلَاةَ اللَّيْلِ إِلَّا الْفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ». [صحيح البخاري (1000)].
ورواه مسلم بلفظ «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُسَبِّحُ عَلَى الرَّاحِلَةِ قِبَلَ أَيِّ وَجْهٍ تَوَجَّهَ، وَيُوتِرُ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ. [صحيح مسلم (700)]
عن ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، قال: فإنْ كان خوفٌ أشدُّ من ذلك صَلَّوْا رِجالًا قِيامًا على أقدامهم، أو رُكبانًا مستقبلي القبلةِ وغيرَ مستقبليها، وفي روايةٍ لمسلم: أنَّ ابنَ عُمرَ قال: (فإنْ كان خوفٌ أكثرُ من ذلك فصلِّ راكبًا، أو قائمًا، تومئ إيماءً. [رواه البخاري (4535) واللفظ له، ومسلم (839)]
وفي الحديث دليل على أن الصلاة في السفر (الفريضة) لا تجوز إلى غير القبلة ولا على الدابة وهذا مجمع عليه إلا في شدة الخوف فلو أمكنه استقبال القبلة والقيام والركوع والسجود على الدابة واقفة عليها هودج أو نحوه جازت الفريضة على الصحيح في مذهبنا» [شرح النووي على مسلم (5/ 211)]
الصلاة في السفر (الفريضة) لا تجوز على الراحلة في الأصل، لكن قد تعرض لها أحوال تبيحها.
منها ما ذكره النووي قال: «ولو حضرت الصلاة المكتوبة وهم سائرون وخاف لو نزل ليصليها على الأرض إلى القبلة انقطاعا عن رفقته أو خاف على نفسه أو ماله لم يجز ترك الصلاة وإخراجها عن وقتها بل يصليها على الدابة لحرمة الوقت» [المجموع شرح المهذب (3/ 242)]
ومنها: مرض الراكب الذي لا يُطيق النزول عن الدابة، فيؤدي الفريضة إيماءً لمرضه، بعد إيقاف الدابة واستقبال القبلة.
قال الصنعاني: «الفريضةَ تصحُّ على الراحلةِ إذا كانَ مستقبلَ القبلةِ في هودجٍ، ولوْ كانتْ سائرةً كالسفينةِ؛ فإنَّ الصلاةَ تصحُّ فيها إجماعًا» [سبل السلام (2/ 91)]
ما حكم الصلاة في السفر على السفينة؟
تجوز الصلاة في السفر على السفينة.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الصَّلَاةِ فِي السَّفِينَة، فَقَالَ: كَيْفَ أُصَلِّي فِي السَّفِينَةِ؟ قَالَ: "صَلِّ فِيهَا قَائِمًا إِلَّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ". [(حسن) المستدرك على الصحيحين (2/ 155) وقال هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الإسْنَادِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، والبيهقي (5698) وحسنه]
قال الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى: «الحديث يدل على وجوب الصلاة من قيام في السفينة ولا يجوز القعود إلا لعذر مخافة غرق أو غيره لأن مخافة الغرق تنفي عنه الاستطاعة، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وثبت من حديث ابن عباس: "إذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" وهي أيضًا عذر أشد من المرض.» [نيل الأوطار (3/ 533)]
ونقل الإجماع على ذلك: النووي، وابن الملقن، والصنعاني، والشوكاني.
ما حكم الصلاة في الطائرة؟
أفتى كبار العلماء بجواز صلاة الفريضة في الطائرة مع القيام بأركانها حسب الاستطاعة، ويدور معها حيث دارت من أجل استقبال القبلة، وهذا اختيار الشيخ ابن باز، وابن عثيمين.
قال ابن باز رحمه الله: «أما إن كان السفر طويلا فإنه يصلي في الطائرة، أو في القطار - والحمد لله - ولا يترك الصلاة حتى يخرج الوقت يصليها على حسب طاقته إلى القبلة، ويدور مع القطار، ويدور مع الطائرة حيث دارت، ويصلي قائما إن استطاع.
فإن لم يستطع صلى جالسا، يدور مع القبلة مثل صاحب السفينة، صاحب الباخرة، كل منهم مأمور بطاقته، فالله سبحانه يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
فإذا استطاع أن يقوم في وسط الطائرة، وفي وسط الباخرة، وفي وسط القطار أو في أي مكان منه قام وصلى قائما، وركع وسجد، وكمل صلاته مستقبل القبلة» [فتاوى نور على الدرب (13/ 78/ 79)]
وقال الشيخ ابن عثيمين: «لهذا نرى أن الصلاة على الطائرة صحيحة مطلقاً، ولو كان ذلك مع سعة الوقت، ولكن يجب أن يفعل الواجبات من الاستقبال، والسجود، والقيام، والقعود.» [الشرح الممتع (4/ 345)]
وقال أيضا: «حكم الصلاة فيما إذا تغير اتجاه الطائرة أن يستدير المصلي في أثناء صلاته إلى الاتجاه الصحيح، كما قال ذلك أهل العلم في السفينة في البحر، أنه إذا تغير اتجاهها فإنه يتجه إلى القبلة ولو أدى ذلك إلى الاستدارة عدة مرات.
الواجب على قائد الطائرة إذا تغير اتجاه الطائرة أن يقول للناس قد تغير الاتجاه فانحرفوا إلى الاتجاه الصحيح، هذا في صلاة الفريضة، أما النافلة في السفر على راحلته أينما توجهت به» [مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (15/ 416)]
هل بجوز صلاة التطوع على الراحلة في السفر ؟
تجوزُ صلاةُ النافلةِ على الراحلةِ في السفر، حيثما توجَّهت به.
قال الله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115]
قال ابنُ عمر وطائفةٌ: نزلت هذه الآيةُ في الصَّلاةِ على الراحلةِ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُسَبِّحُ عَلَى ظَهْرِ رَاحِلَتِهِ حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ، يُومِئُ بِرَأْسِهِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ». [صحيح البخاري (2/ 46)] يُسَبِّحُ: أي يصلي التطوُّع والنافلة.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: «كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. قَالَ سَعِيدٌ: فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ، فَقَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ لَهُ: خَشِيتُ الْفَجْرَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ. فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ أُسْوَةٌ! فَقُلْتُ: بَلَى وَاللهِ. قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ». [صحيح مسلم (700)]
عن أنس بن سيرين قال: «تَلَقَّيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ قَدِمَ الشَّامَ فَتَلَقَّيْنَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ ذَلِكَ الْجَانِبَ - وَأَوْمَأَ هَمَّامٌ، عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ - فَقُلْتُ لَهُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ! قَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَفْعَلُهُ لَمْ أَفْعَلْهُ». [صحيح مسلم (702)]
عن عامرِ بنِ رَبيعةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ». [صحيح البخاري (1093)]
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ «كَانَ يُصَلِّي التَّطَوُّعَ وَهُوَ رَاكِبٌ فِي غَيْرِ الْقِبْلَةِ». [صحيح البخاري (1094)]
وأجمع العلماء على ذلك:
نقَل الإجماع: الترمذيُّ، وابنُ عبد البرِّ، وابنُ قُدامةَ، والنوويُّ، وابنُ تَيميَّة، والعينيُّ، والشوكانيُّ.
قال ابن القيم: «وكان يصلِّي التطوُّع بالليل والنهار على راحلته في السفر قِبَلَ أي وجهة توجَّهت به. فيركع ويسجد عليها إيماءً، ويجعل سجوده أخفضَ من ركوعه» [زاد المعاد (1/ 407)]
قال شيخ الإسلام: «وهذا مما اتفق العلماء على جوازه وهو صلاة بلا قيام ولا استقبال للقبلة فإنه لا يمكن للمتطوع على الراحلة أن يصلي إلا كذلك فلو نهي عن التطوع أفضى إلى تفويت عبادة الله التي لا يقدر عليها إلا كذلك؛ بخلاف الفرض. فإنه شيء مقدر يمكنه أن ينزل له ولا يقطعه ذلك عن سفره.» [مجموع الفتاوى (21/ 285)]
قال ابنُ عبد البَرِّ «ولا خلاف بين الفقهاء في جواز صلاة النافلة على الدابة حيث توجهت براكبها في السفر» [الاستذكار (2/ 255)]
شارك الفائدة مع من أحبت واذكرنا بدعوة صادقة.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بعض المراجع