
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: «كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.» [صحيح مسلم (2739)] أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وهذا الحديث اشتمل على أدعية عظيمة وجامعة لخيري الدنيا والآخرة، والأدعية النبوية هي أشرف الأدعية؛ لما تشتمل عليه من المعاني السامية، والمطالب العالية، وما فيها من شرف الألفاظ، وجمع المعاني الكثيرة بالجمل القليلة.
قوله: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك»: أي: أعتصم وألتجئ إليك يا الله من ذهاب نعمك الظاهرة والباطنة، الدنيوية والأخروية ما علمتها، وما لم أعلمها. فنعمك لا تُحصى، ولا تُعدُّ.
وأعظم نعمة نعمة الهداية لهذا الدين، وهي نعمة لا تعدلها كنوز الأرض كلها، ودوام هذه النعم بالشكر بالقلب والقول والفعل، وزوالها بالمعاصي والذنوب. فاستعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من زوال نعمته؛ لأن ذلك لا يكون إلا عند عدم شكرها.
قال الشيخ عبد الله البسام رحمه الله: «الأمور كلها بيد الله تعالى؛ فهو المعطي، وهو المانع، لا رادَّ لأمره، فالاستعاذة والاعتصام من زوال النعم هي في موقعها؛ وواقعة موضعها، فهو يسأل معطيها أن لا يزيلها، وزوالُ النعم يكون غالبًا بسبب الذنوب، فهو يسأل ضمنًا العصمة من الذنوب التي هي سبب زوال النعم». [توضيح الأحكام 7/ 569]
«وزوال النعمة لا يكون منه تعالى إلا بذنب يصيبه العبد فالاستعاذة من الذنب في الحقيقة كأنه قال: نعوذ بك من سيئات أعمالنا وهو تعليم العباد، وتحول العافية انتقالها ولا يكون إلا بحصول ضدها وهو المرض». [سبل السلام 4/ 712]
قوله: «وتحول عافيتك»، نعمة العافية من أعظم النعم بعد نعمة الإيمان والإسلام. عن معاذ بن رفاعة عن أبيه قال: قام أبو بكر الصديق على المنبر ثم بكى فقال: قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عامَ أوَّلِ على المنْبَر، ثُمَّ بَكى: فقال: "سَلوا الله العَفْوَ والعافِيَةَ، فإَنَّ أحداً لَمْ يُعْطَ بعدَ اليقينِ خَيْراً مِنَ العافِيَةِ"». [صحيح الترغيب والترهيب وقال: حسن صحيح] «فجمع بين عافيتي الدين والدنيا، ولا يتم صلاح العبد في الدارين إلا باليقين والعافية، فاليقين يدفع عنه عقوبات الآخرة، والعافية تدفع عنه أمراض الدنيا في قلبه وبدنه». [زاد المعاد 4/ 197]
فمعنى زوال النعمة ذهابها، وتحول العافية إبدال الصحة بالمرض والغنى بالفقر.
وقوله: "وفجأة نقمتك" الفجأة: هي البغتة التي تأخذ الإنسان من حيث لا يكون عنده سابق إنذارٍ وإخطارٍ وتحذير، فيؤخذ من مأمنه، حينما تفجؤه النقمة، ويبغته العذاب.
واستعاذ صلى الله عليه وسلم من فجاءة نقمة الله -سبحانه- لأنه إذا انتقم من العبد فقد أحل به من البلاء ما لا يقدر على دفعه، ولا يستدفع بسائر المخلوقين، وإن اجتمعوا جميعا.
قوله: "وجميع سَخَطِك" تعميم بعد تخصيص، فهو يستعيذ بالله تعالى، ويعتصم من جميع الشرور والأمور التي توجب سخط الله تعالى، والذي يسخطه جلَّ وعلا على عباده: هو عموم المعاصي والذنوب، من انتهاك المحرَّمات أو ترك الواجبات، والله أعلم». [توضيح الأحكام 7/ 570]
والسخط: الكراهية للشيء، وعدم الرضا به. استعاذ صلى الله عليه وسلم من جميع أسباب سخطه جل جلاله من الأقوال والأفعال والأعمال؛ لأنه -سبحانه- إذا سخط على العبد فقد هلك وخسر، ولو كان السخط في أدنى شيء وبأيسر سبب، ولهذا قال الصادق المصدوق وجميع سخطك وجاء بهذه العبارة شاملة لكل سخط.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.». [صحيح مسلم 486].
قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله تعالى في هذا معنى لطيف وذلك أنه استعاذ بالله تعالى وسأله أن يجيره برضاه من سخطه وبمعافاته من عقوبته والرضاء والسخط ضدان متقابلان وكذلك المعافاة والعقوبة فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله سبحانه وتعالى استعاذ به منه لا غير ومعناه الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه». [شرح النووي على مسلم 4/ 204]
وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
انشر تؤجر وشاركنا تعليقاتك.