
شهر رمضان قد عزم على الرحيل ولم يبق منه إلا القليل، يا شهر رمضان ترفق، دموع المحبين تَدفَّق، قلوبهم من ألم الفراق تَشَقَّقْ. عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام ما تخرّق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يُعتق.
كيف لا تجرى للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع.
أعظم ما تختم به الصيام.
الاستغفار من أعظم العبادات التي شرعها الله لعباده، وهو طلب المغفرة والعفو عن الذنوب والتقصير، وقد أُمر به في مواضع كثيرة، خاصة بعد أداء العبادات العظيمة كالصلاة، والحج، وعند ختام المجالس، وهذا يدل على أهميته في تهذيب النفس، وتكميل العمل، ورفع الدرجات.
«الاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها فيختم به الصلاة والحج والقيام في الليل ويختم به المجالس، فإن كانت ذكرا كان كالطابع عليها وإن كانت لغوا كان كفارة لها، فكذلك ينبغي أن يختتم صيام رمضان بالاستغفار يرقع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث». [موارد الظمآن (4/ 621)]
الاستغفار بعد الصلاة
من السنن المهجورة التي واظب عليها النبي ﷺ الاستغفار بعد الصلوات المفروضة.
عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلَاثًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ، وَمِنْكَ السَّلَامُ، تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. قَالَ الْوَلِيدُ: فَقُلْتُ لِلْأَوْزَاعِيِّ: كَيْفَ الْاِسْتِغْفَارُ؟ قَالَ: تَقُولُ: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أَسْتَغْفِرُ اللهَ». [صحيح مسلم (591)]
ويأتي الاستغفار بعد الصلاة لتكميل النقص الذي قد يقع أثناء أدائها، سواء في الخشوع أو التدبر، وهو تعبير عن تواضع العبد أمام الله مهما أخلص في عبادته.
الاستغفار بعد الحج
الحج من أعظم العبادات التي يتجرد فيها الإنسان من ذنوبه، ومع ذلك فقد أمر الله الحجاج بالاستغفار بعد أدائهم مناسكهم، فقال سبحانه: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 199]، لأنه مهما اجتهد العبد في إتمام مناسكه، فقد يكون قد وقع في نقص أو تقصير، لذلك يُسن للمسلم أن يكثر من الاستغفار بعد أداء المناسك طلبًا للقبول وكمال الأجر.
الاستغفار في نهاية المجلس
النبي ﷺ علّم أصحابه أن يختموا مجالسهم بالاستغفار، حتى لو كانت مجالس ذكر وعلم، فقال: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ». [(صحيح) سنن الترمذي (3433)]
الاستغفار يختم به مجالس القرآن:
قال النسائي: «ما تختم به تلاوة القرآن».
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَجْلِسًا قَطُّ، وَلَا تَلَا قُرْآنًا، وَلَا صَلَّى صَلَاةً إِلَّا خَتَمَ ذَلِكَ بِكَلِمَاتٍ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَاكَ مَا تَجْلِسُ مَجْلِسًا، وَلَا تَتْلُو قُرْآنًا، وَلَا تُصَلِّي صَلَاةً إِلَّا خَتَمْتَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: " نَعَمْ، مَنْ قَالَ خَيْرًا خُتِمَ لَهُ طَابَعٌ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، وَمَنْ قَالَ شَرًّا كُنَّ لَهُ كَفَّارَةً: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ "». [السنن الكبرى (10067)] وعمل اليوم والليلة (308)]
وفي رواية: كان إذا جلسَ مجلِسًا أو صلَّى تكلَّم بكلماتٍ، فسألَتْه عائشةُ عن الكلمات، فقال: "إنْ تكلَّمَ بخيرٍ كان طابَعًا عليهنَّ إلى يوم القيامة، وإنْ تكلَّمَ بغير ذلك كان كفَّارةً له: سُبحانك اللهمَّ وبحمدِكَ، أستغفِرُكَ وأتوبُ إليك"». [سنن النسائي (1344) بإسناده صحيح.]
عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أَوْ صَلَّى تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ، فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنِ الْكَلِمَاتِ؟ فَقَالَ: إِنْ تَكَلَّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابِعًا عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ». [(صحيح) مسند أحمد (24486) وقال محققوه هذا حديث صحيحٌ، وصحيح الترغيب (1518)] وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط وإسناده حسن.
الاستغفار في نهاية العمر
كان النبي ﷺ يستغفر الله كثيرًا، ويقول: «وَاللهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً.». [صحيح البخاري (6307)]، وكان يقول في آخر عمره: "اللهم اغفر لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى.
عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ: «أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ ﷺ، وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَهُوَ مُسْنِدٌ إِلَيَّ ظَهْرَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ.». [صحيح البخاري (4440)، ومسلم (2444)]
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي. يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ». [صحيح البخاري (817) ومسلم (484)]. يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ: أي يفعل ما أمر به فيه. أي في قوله عز وجل: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا
وفي رواية: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَرَاكَ أَحْدَثْتَهَا تَقُولُهَا؟ قَالَ: جُعِلَتْ لِي عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي إِذَا رَأَيْتُهَا قُلْتُهَا {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} إِلَى آخِرِ السُّورَةِ».. [صحيح مسلم (418)]
والاستغفار في نهاية العمر سبب لحسن الخاتمة، وطهارة القلب، والاستعداد للقاء الله.
الاستغفار في نهاية شهر رمضان
رمضان شهر الطاعة والعبادة، يُستحب للمسلم أن يُكثر من الاستغفار عند ختامه، ليكون ختمًا حسنًا للطاعة، والاستغفار بعد العبادات من سنن النبي ﷺ التي تعكس تواضعه وخوفه من الله، وهو وسيلة عظيمة لتكملة الأعمال، ونيل المغفرة والرضوان. لذا، ينبغي للمسلم أن يجعله جزءًا من حياته اليومية، في صلاته، وحجّه، وصيامه، ومجالسه، حتى نهاية عمره، طمعًا في رحمة الله.
اللهم أعد علينا رمضان أعواما عديدة ونحن طائعين لك، وسنوات مديدة ونحن مرضيين عندك، وتقبل منا الصلاة والصيام وقراءة القرآن.... آمين. وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. انشر تؤجر.