هذا البرد القارس أثبت لنا ضعف البشر، وافتقارهم إلى عفو الله تعالى عنهم، ورحمته بهم، وإنعامه عليهم.
ومنذ أن سكن البشر الأرض ورِزْقُ الله تعالى يأتيهم فيها، والكوارث الكونية سواء كانت عذابا أم ابتلاء لم تُفْنِ البشر كلهم، بل يبقى منهم بقية يتناسلون ويتكاثرون ويعمرون الأرض؛ لحكمة يريدها الله تعالى.
وشدة البرد، وشدة الحر نَفَسَان من جهنم؛ لتذكير العباد في الدنيا بنار الآخرة؛ ليتقوا ما يوردهم إياها، ويأخذوا بأسباب النجاة منها.
قال رسول الله ﷺ: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا! فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ» (صحيح البخاري 3260، ومسلم 617).
والبرد مهلك، كما أن الحر مؤذٍ، والناس يتقون البرد أكثر، وقد دلَّ القرآن على هذا المعنى؛ ففي سورة النحل ذكر الله تعالى في أولها أصول النعم، ومنها بهيمة الأنعام، وقال سبحانه:
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} (النحل:5)
وفي آخر السورة ذكر مكملات هذه النعم من المتاع والأثاث ومنها قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} (النحل:81). وسرابيل البأس هي لباس الحرب، فلم يذكر لباس البرد من المكملات؛ لأنه عز وجل ذكره من الأصول والأساسات في أول السورة.
ومن كمال نعيم أهل الجنة أنهم لا يجدون فيها حرا ولا بردا
قال قتادة: عَلِم الله تعالى أنّ شدة الحر تؤذي وشدة البرد تؤذي، فوقاهم أذاهما جميعا.
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} (الإنسان:13). والزمهرير هو البرد القاطع، قال ابن مسعود: هو لون من العذاب.
ولأنّ شدة البرد تؤذي الناس وقد تهلكهم؛ فإن الله تعالى قد خفَّف عنهم في كثير من الأحكام الشرعية:
- أباح عز وجل لهم التيمم في شدة البرد، وعدم وجود وسائلَ لتسخين الماء؛ مما يُظَن معه الهلاك أو الضرر.
- ومن تخفيف الله تعالى على عباده، ورحمته عز وجل بهم: أن شرع سبحانه لهم المسح على الخفين.
- وأباح لهم الصلاة في رحالهم إذا كان البرد شديدا مصحوبا بأمطار أو ريح تضر الناس وتؤذيهم.
عن نَافِعٍ؛ أَنَّ ابن عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلَاةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ. فَقَالَ: أَلَا صَلُّوا فِي الرِّحَالِ. ثُمّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ، إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ بَارِدَةٌ ذَاتُ مَطَرٍ، يَقُولُ: ألا صلوا في الرحال» (صحيح البخاري 632 ومسلم 697).
وللمؤمن رخصةٌ في لبس القفازين أثناء الصلاة ذكرا كان أم أنثى؛ إذ لا مانع من ذلك.
ومن أسباب محو الخطايا ورفع الدرجات: إسباغُ الوضوء على المكروهات، ومعلوم أن إسباغ الوضوء في شدة البرد، وكثرةِ الملابس على المتوضئ مما يكرهه ويشق عليه، لكنه يفعل ذلك قربةً لله تعالى، فاستحق ما رُتب عليه من أجر عظيم.
وليحذر المسلم من التقصير في إسباغ الوضوء، وترك غسل أجزاء من بعض الأعضاء، كالوجه والكعبين، ولا سيما المرفقين، مع كثرة اللباس، وعُسْرِ حَسْرِ الأكمام عنهما.
وتسخينُ الماء في شدةِ البرد مما يحفظ النفس من العطب والمرض، ويعين على إسباغِ الوضوء وإتمامِ الطاعة، فلم يكن به كراهة.
ويَكثرُ في البرد إيقاد النار ووسائلِ التدفئة؛ فليحذر المسلم منها؛ فإن النار عدو له، وكم من حوادث هلك فيها أفراد وأسرٌ بسبب التساهل في ذلك.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ» (صحيح البخاري 6293 ومسلم 2015).
وعن أبي موسى قال: «احترق بيت بالمدينة على أهله من الليل، فحدث بشأنهم النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن هذه النار إنما هي عدو لكم، فإذا نمتم فأطفئوها عنكم» (صحيح البخاري 6294 ومسلم 2016).
ويُكره أن تكون النار في قبلة المصلي فريضة كانت أم نافلة، ولو شُعْلَةَ مِدْفَأةٍ أو شمعة؛ لما فيه من التشبه بالمجوس الذين يُصَلُّون للنار أو إليها، وقد نُهينا عن التشبه بالكفار.
أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يرزقنا العمل بما علمنا، إنه سميع مجيب.
وصلِ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه. انشر تؤجر وشاركنا تعليقاتك.