﴿فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ﴾ [الروم:50]
إن رحمة الرحمن الرحيم بلغت آثارها من الكثرة ما تعجز العقول عن الإحاطة به، والأرقام والأعداد عن حصره؛ إذ جميع ما في العالم العلوي والسفلي من النعم والمنافع والخيرات من آثار رحمته، كما أن صرف المكاره والنقم والمخاوف والأخطار والمضار من آثار رحمته.
ورحمة الله تعالى لخلقه قسمان:
-رحمة عامة: وسعت كل شيء من العالم العلوي والسفلي، ووصلت لكل حي، مكلف وغير مكلف، بر وفاجر، مؤمن وكافر.
وهي رحمة جسدية، بدنية، دنيوية، ومن آثارها:
-خلق المخلوقات وإيجادهم من العدم على صورة محكمة متقنة، قال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:6]، فخلق الإنسان، وبرحمته جعله في أحسن صورة، مكتمل الأعضاء، مستوفي الأجزاء، محكم البناء، وعلمه البيان النطقي والخطي، قال تعالى في سورة الرحمن التي جاءت بذكر آثار رحمته التي أوصلها لخلقه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4].
-رعاية الخلق بالتدبير، والتصريف، والحفظ، وسوق الأرزاق والمعاش، قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]، فبرحمته رعى الخلق بما قدر لهم؛ إذ علم سبحانه مصالحهم ومنافعهم، فقدرها لهم ويسر لهم تحصيلها.
-خلق هذا الكون على صفة تكفل للإنسان وغيره من الكائنات حسن العيش؛ فرفع السماء وأمسكها برحمته من أن تقع على الأرض، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج:65].
- رحمة خاصة: وهي التي خص الله بها عباده الصالحين وأولياءه المتقين، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156].
وهي رحمة إيمانية، دينية، دنيوية، أخروية، ومن آثارها:
هداية أوليائه إلى الحق الذي جهله غيرهم، وتبصيرهم بالطريق المستقيم الذي ضل عنه وحاد عنه من سواهم، من الدعاة إلى الكفر والبدعة وأشياعهم، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43].
توفيق أوليائه لطاعته، وتيسير الخير لهم، وإعانتهم عليه، قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور:21].
تثبيت أوليائه على الحق على الرغم من الدواعي للزيغ، قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
إجابة دعوات أوليائه، قال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:28].
امتنانه على أوليائه باستغفار ودعاء أفضل ملائكته - حملة العرش- لهم، قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
جعل مصائب المؤمنين وبلائهم كلها خيرًا ورحمة؛ فما ينزل بهم من مصائب وآلام وأحزان إلا تُكَفَّر به سيئاتهم، وترفع به درجاتهم، قال تعالى عن مؤمن آل ياسين أنه قال لقومه: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس:23].
تخفيف أهوال القيامة وشدتها على أوليائه؛ فيُؤمِّن فزعهم بتلقي الملائكة الكرام لهم بالبشرى، قال تعالى: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:31-32].
إدخال أوليائه الجنة، التي هي أثر من آثار رحمة الرحمن الرحيم، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية:30]، وكما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لن يُدْخِل أحدًا منكم عملُه الجنةَ»، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا» [صحيح البخاري (5673)، وصحيح مسلم (2816)].
إخراج أهل التوحيد من النار؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: «ثم أعود الرابعة فأحمده بتلك ثم أَخِرُّ له ساجدًا، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال (لا إله إلا الله)، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال (لا إله إلا الله)» [صحيح البخاري (7510)، ومسلم (193)].
وفي رواية: أن الله عز وجل يقول للرسل: «اذهبوا أو انطلقوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردلة من إيمان فأخرجوه، ثم يقول الله: أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي، قال: فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه، فيكتب في رقابهم: عتقاء الله، ثم يدخلون الجنة، فيسمون فيها: الْجَهَنَّمِيِّينَ» [أخرجه أحمد (14715)، وابن حبان (183)، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (354): صحيح لغيره].