
إن المولى عز وجل لا يبتلي عباده لأنه يريد عذابهم، وهو سبحانه غني عنهم{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]، ولكن يبتلي المولى عز وجل عباده لأجلهم! أجل، هذا البلاء الذي ينزل بالمؤمن إنما لأجله، فالبلاء له حِكم وأسرار عجيبة، إن حققها الإنسان المبتلى، رفع الله عنه ما نزل به من البلاء، ومن أعظم هذه الحِكم والأسرار:
أولاً: تكفير السيئات ورفعة الدرجات: فعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يصيب المسلم، من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه» صحي البخاري (5641). وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المؤمن من شوكة فما فوقها إلا رفعه الله بها درجة، أو حط عنه بها خطيئة» صحيح مسلم (2572).
ثانياً: تحقيق العبودية لله باللجوء إليه والتوكل عليه وتعلق القلب به في كل أحواله، فربما يصيب الإنسان بعض الغرور، ونسيانه لربه، وتعلقه بماله وقوته وسطوته، وينسى أن له رب بيده مقاليد الأمور، روبما أسرف الإنسان على نفسه وطغى، وزاد في المعاصي وأوغل في الذنوب، فيبتليه المولى عز وجل ليعود إلى ربه، وهذا هو ديدن المسلم، أن يعود إلى ربه، قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43]، فتضرع إلى ربك وإلى مولاك.
لكن المخيف في الأمر أن هناك الكثير ممن يرون هذه الأرواح التي تموت في كل أرجاء الأرض بسبب فيروس كورونا، ومع هذا لم يتب من الذنب بعد، وما زال مُصر على المعصية، وهو يرى بأم عينيه أن البلاء لا يفرق بين صغير وكبير، ولا بين صحيح ومريض، فهذا يموت وهذا يموت، والإنسان لا يدري متى ساعته؟!
ثالثاً: للتفكير في عيوب المرحلة الماضية والاستعداد لما هو آت: فالإنسان الفطن الذكي هو الذي يتعلم من أخطائه، فمثلاً في تعامله مع فيروس كورونا ينظر إلى أكثر فئة من الناس عرضة للإصابة بالفيروس، وأكثرها هلاكاً بسببه، سواء كان ذلك بسبب سمنة أو تدخين أو أمراض يسببها الإنسان لنفسه، حينها يبدأ الإنسان في معالجة أموره قبل أن يصيبه الفيروس، وهكذا في كل الابتلاءات، هي فرصة لمراجعة النفس، والتفكير فيما هو آت والتعلم من الماضي، مع الأخذ بالأسباب والتوكل على الله أولاً وآخراً.
رابعاً: التوبة النصوح بينك وبين ربك، فالله يرسل هذه الآيات كي نراجع أنفسنا، ونتوب إليه، وربما توبة فرد واحد منا تكون سبباً في رفع هذا البلاء، فقد ذكر ابن قدامة في كتابه التوابين أنه لحق بني إسرائيل قحط على عهد موسى - عليه السلام - فاجتمع الناس إليه فقالوا: يا كليم الله! ادع لنا ربك أن يسقينا الغيث، فقام معهم وخرجوا إلى الصحراء وهم سبعون ألفا أو يزيدون فقال موسى - عليه السلام -: إلهي! اسقنا غيثك: وانشر علينا رحمتك وارحمنا بالأطفال الرضع والبهائم الرتع والمشايخ الركع، فما زادت السماء إلا تقشعاً والشمس إلا حرارة.
فأوحى الله إليه: فيكم عبد يبارزني منذ أربعين سنة بالمعاصي، فناد في الناس حتى يخرج من بين أظهركم فبه منعتكم.
فقام مناديا وقال: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله منذ أربعين سنة! اخرج من بين أظهرنا فبك منعنا المطر.
فقام العبد العاصي فنظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحداً خرج، فعلم أنه المطلوب، فقال: في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا لأجلي، فأدخل رأسه في ثيابه نادماً على فعاله، وقال: إلهي وسيدي! عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعاً فاقبلني، فلم يستتم الكلام، حتى ارتفعت سحابة بيضاء، فأمطرت كأفواه القرب.
فقال موسى: إلهي وسيدي! بماذا سقيتنا وما خرج من بين أظهرنا أحد؟ فقال: يا موسى! سقيتكم بالذي به منعتكم.
فقال موسى: إلهي! أرني هذا العبد الطائع فقال: يا موسى! إني لم أفضحه وهو يعصيني أأفضحه وهو يطيعني؟!
فرب توبة أحيت أمة...
التوابين لابن قدامة (ص: 55)